مجلس الشعب السوري
اسم المستخدم
كلمة المرور
نسيت كلمة المرور
تسجيل جديد
 الرئيسية 

الدكتور نبيل طعمة يكتب : الإنسان الكلّي

الأربعاء, 5 حزيران, 2024


(اعرف نفسك) عبارة مكتوبة على مدخل معبد أبولو في مدينة "دلفي" اليونانية التي تتمتع بأسطورة وصول إله الشرق إليها، وأشار إليها الكاتب اليوناني باوثانياس، هذه التي كان قد تعامل معها الفيلسوف أرسطو واعتبرها من أهم مناهجه، وهنا أجد أن أول ما يجب على الإنسان أن معرفته في رحلة وعيه ومسيرته أنه إنسان يختلف عن البشر، وذلك كي يصل إلى الإنسان الكلي المتوزع بين الصور الإنسانية المختلفة،  وأن يمتلك نزعة أعتبرها من الضرورات للوصول إلى تلك الشخصية التي تعتبر هدفاً رئيساً من خلال المبادئ المرسومة عنها، والتي من أهمها سلوكها الأخلاقي القديم ومنهجها الفكري المستقيم، وإذا كان الإنسان في حقيقة وجوده من أهم أسباب وجود الحياة وتنميتها فهو، في الوقت نفسه، واسطتها الأساس لفعل ذلك في الحيوات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية والبيئية، ويؤسس مقولاته على أن الظلم أقسى من البؤس عند الإنسان الواقعي، الذي يفرق بينه وبين المثالية المتربعة على القمم، يراها الجميع ولا أحد يأخذ بها، فينطبق عليها الواقع الذي يرى أن البراكين لا تسيل حممها إلا من أعالي الجبال، وعند مسيلها يهرب الإنسان منها لأن حياته قائمة على الانفلات الذي يخاف الخوف، وأن المعلق على الصليب فقد قراره فكان أقوى من الظالم مالك القرار، معادلات تُعتبر من أهم أسس الإنسانية التي تحدثت عنها عندما قلت: سرت والنفس ظامئة، أشعل النار في قلبي كي أطوف في بحار الغير، ألقي بكلمتي، اسمعها وتسمعني، وقد عرفت أن الناس منهم الحكام ومنهم العمال، والكل يعترف أن السعادة الكبرى تكون في الشخصية الإنسانية، وأن المرء قادر على تحمل جميع أنواع الحياة إذا لم يكن كثير الاعتداد بنفسه، وله أن يتنازل عن كل شيء شريطة أن يبقى شيء من الكل فيه.

الإنسان الكامل ينخفض من الكمال الكلي إلى مراتب الناس ليحيا معهم الغرائز الدنيا ومن ثم يعود إلى ما كان عليه كي يقدم لهم الفضائل وما يجب أن يكونوا عليه فارزاً الرزائل والدونية أي يقدم لهم فنون وأدبيات الارتقاء ومعه نجد أن شعور الإنسان بمشكلات الحياة الجزئية لا يزال حتى اليوم أشد من شعوره بمشكلات الحياة الكلية، وسبب ذلك أنه يعيش في كهف مظلم تقيده الغرائز والعادات والتقاليد، وتضيّق عليه الخناق، فتمنعه من تجاوز ذاته إلى الاكتمال، فالإنسان لا يعرف نفسه معرفة حقيقية إلا إذا عرف الجغرافية والتاريخ وفهم استخلاصه منهما، ولا يستطيع أن يفسر نفسه تفسيراً كاملاً إلا بالإنسانية المالكة للقيم والعدالة؛ القادرة على توثيق الروابط بين أبناء المجتمع الواحد، ومن ثم تنعكس على المجتمعات المحيطة به، من القريب إلى البعيد، فلدى جميع وسائل الإعلام، وكل مظاهر الثقافة، كالمسرح والموسيقى والفنون الجميلة والآداب الفكرية العلمية والشعبية وغيرها أبعاد أخلاقية تظهر في بناء الإنسان بشكل خلاق، وفي إنقاذه من الحضيض بغاية احترام شخصيته وكرامته وحفظ تراثه الفكري والعمل على رفع وتحسين ذائقته وتهذيب نفسه وحضوره.

اعرف نفسك، فإذا عرفتها عرفت الآخر، وبهذه المعرفة تنتمي إليك إليه وتستكين إلى صدر الحياة الحنون الذي يبعثر سحب السماء، وتمتص لغة المعرفة ألوان قوس القزح، فلا يبقى سوى معرفتك بأنك الحياة المتجولة ما بين الليل والنهار، تطلب الجمال والإبداع وتميل إلى الهدأة والسكون.

إن الإنسان الساعي للكلية يدرك بقوة أن الآلهة لا تفعل شيئاً للمؤمنين بها، إن لم يفعلوا لأنفسهم ما يفيدهم ويفيد الآخر، ومحاولة الإنسان اجتناب الخطأ مستحيلة، بل الأجدى له أن يحاول التعلم من أخطائه، فإذا حدث ووصل إلى ذلك بدأ البحث عن مكان له في القمة، لأن الضرورة تدعوه للخروج من القاع الممتلئ بالازدحام المفتقد للمعنى، فإذا ظهر الكون السرمدي الذي يضيء له العقل كي يغرز الأشياء ويصنفها ويحيا معها مرة قاتمة وأخرى ملتمعة، وحيناً منقبضة وحيناً أخرى نيّرة، عندها يدرك استحالة  تشابه أيامه، لأن الأمس لا يشبه الحاضر، وينسحب ذلك على غده، ومن هنا  نجد أنه لن يعاني إلا من التغيير المستديم.

الإنسان الكامل محيط متحد بفضاءاته، يتبادل معها وحدة وجوده، يؤمن أن ما فيها موجود فيه، وأنها شاهدة عليه، لا يستثني علماً فهو نهم للمعرفة، تسكن روحه أدبيات الجمال والأخلاق، وهنا أقول عنه إنه الناس بطبقاتها وسلطات الحكم بتنوعاتها، لأن مفهومه عن السعادة الفائقة هو أن المرء يستطيع تحمل جميع أنواع الحياة إذا لم يكن كثير الاعتداد بنفسه، وله أن يفقد كل شيء بشرط أن يبقى باحثاً عن نفسه.     

د. نبيل طعمة



عدد المشاهدات: 549

طباعة  طباعة من دون صور


رزنامة نشاطات المجلس
للأعلى