الهمجية تغزو العالم الأربعاء, 27 تشرين الثاني, 2024 كلما ازداد انتشار السلاح وتراكمت الأموال في يد حفنة من البشرية ازدادت الهمجية وتسلطت على الشعوب الباحثة عن الأمان، حللوا معي عنواننا الذي يعني سوء التدبير في المعاش، وانتشار رعاع من الناس لا نظام لهم ولا هدف لهم سوى السيطرة والتوسع، والهمجي هو شخص شرير أو قاتل أو سافك للدماء، والهمج هم القوم الرعاع الذين لا يراعون حرمة ولا ديناً ولا أخلاقاً، ولا يشترط في الهمجي أن يكون متخلفاً أو غير متعلم أو فقيراً، فهؤلاء، وإن كانوا كذلك، فهم معذورون نظراً لظروفهم ولضيق مداركهم، أما المشكلة فتكمن في ذلك الذي تربى على احترام العادات وتعلم الالتزام بالتقاليد والأعراف، وتمرس في تقديس الرأي العام، واعتاد أن لا يكون عبداً، والتزم بأن لا يخضع إلا للحق، وأن الانتقاد بحسب الأهواء تحول البشري إلى همجي، ضارباً بفكره الإنساني وضميره الإنصافي، متجهاً لاعتناق السيطرة والضغط والتملك؛ أي إلى الجشع بكل ما تعنيه الكلمة، والهمجي يعجز عن ضبط ميوله، يثور ويهيج، كما السيل يهدم السدود، وإذا امتلك القوة استعبد ودمّر، وإذا تراكم معه المال أترف وبذّر، لا يفكر إلا بنفسه، وسبب ذلك أنه يعيش في كهف مظلم تقيده الغرائز، وتضيق عليه الضفاف فتمنعه من مجاوزة ذاته، جاعلاً همه في كل ما قال وفعل على أمل أن ينفذه الغير دون اعتراض. الهمجية تغزو شعوب العالم من المجتمعات الصغيرة، إلى الدول، إلى الأمم المتحدة ومنظماتها، على حساب الإنسانية والأخلاق والقيم والعادات التي أصبحت عناوين فُرّغت من مضامينها، تتغنى وتنادي بها القيادات والشعوب، وهي ليست أكثر من عمليات تجميل لجوهر معقد ممتلئ بالأنا والابتزاز والغزو، والمعارك التي تخوضها على كل الجبهات؛ دينية كانت أم اقتصادية، سياسية أم عسكرية، أما الإنسان فقد غدا سلعة يتناولها الادعاء والخبث والنفاق، لذلك أستطيع أن أتبنى تعريفاً للهمجية أطلقه وهو أنها مشروع تكاذب خطير يسود الآن بين البشرية، غايته إخضاع الكل للكل، فمن ينتصر؟ ومتى سيحدث الانكشاف أو الاعتراف بأننا نحيا أسوأ مرحلة أو حقبة بشرية. لم تعد الهمجية منحصرة في عقول بعض القادة، أو ضمن الأيديولوجيات السياسية والدينية والاجتماعية؛ بل أخذت تغزو أجيالاً كاملة، وهنا مكمن الخطورة، هذه الكلمة "الهمجية" وردت منذ الظهور الأول لإنسان الكهوف والذي خرج منها بشكل مرعب، وتناسى الكثير من الباحثين أنه دخل إلى تلك الكهوف بأحسن حلة هرباً من سلطة الطبيعة والوحوش، وأجزم، من همجية الإنسان الآخر الذي كان يطارده بأدواته القاتلة، وبما أنه لم يمتلك الأدوات فقد دوّن على جدران تلك الكهوف تاريخه، ناحتاً إياه وراسماً ما وصل إليه من فكر وتقدم وتطور استفادت منها البشرية لاحقاً. عنوان أخوض غماره أمام هذا الواقع الهمجي الذي يدمر الإنسان والشجر والحيوان والحجر، في غزة وفي لبنان وفي اليمن وفي أوروبا أيضاً، وكان قد دمر في آسيا (فيتنام وكمبوديا) وكذلك فعل في أفغانستان وفي العراق وليبيا وسورية والصومال والسودان، وحاصر فنزويلا وكوريا الشمالية وإيران وسورية أيضاً، كل هذا من أجل ماذا؟ طبعاً بغاية الوصول إلى السيطرة على هذه الدول وإخضاع شعوبها والحصول على المواد الأولية، ونهب ثرواتها بإرادة منها أو بدونها، ويكون ذلك، وكما أشرت، بممارسة الضغوط والتي إن لم يُستجاب لها فحروب الإبادة جاهزة في عقول تلك القادة المؤيدة من شعوبها أيضاً. إذاً الهمجية صفة من صفات شريعة الغاب التي تعتبر من مكونات الطبيعة الحية أو "البرية" حيث المساحة الكبرى لنمو الوحشية "الهمجية" فهناك" لا مستودع السر ذائع ... ولا الجاني بما جر يخذل" وما تحدث به "الشنفرى" شاعر الصعاليك ينطبق اليوم على عالمنا اليوم (القانون والعدالة بيد الأقوى) والأقوى لا إنساني. هل نستطيع أن نقول إن الإنسانية تشكل هدنة في الطبيعة البشرية فكيف بنا نخرج هذا الإنسان من غابته أي من طبيعته البشرية التي يعتبرها أي الإنسانية محطة كي يتابع فهل هو وحدة لا يمكن فصلها، فتارة تراه متحضراً وأحياناً متوحشاً غابياً همجياً، وهذا ما يمنحه صورة البنية الاجتماعية التي تتمتع بالفطرة؛ أي بين العلاقة التي لا يمكن فصلها الغابة "البرية" والحضارة "المدنية". ذاكرة الوعي الإنساني تتحدث عن أن الإنسان الأول كان غابياً بامتياز، حضر الإصلاحيون الأوائل وأنجبوا الأخلاقيين الذين هذبوا الساسة والقادة، الملوك والرؤساء، هؤلاء الذين أنجزوا الأديان، لأن الإنسان الغابي الهمجي احتاج لزراعة الخوف في جوهره، فإذا لم يكن هناك خوف استشرس وتحول إلى وحش قوي، واعتبر أن كل شيء له وملكه، وهذا ما نراه اليوم، الأقوياء يريدون كل شيء، الأمريكي يريد أن يسيطر على العالم، وكذلك يحلم الروسي والصيني والفرنسي والبريطاني، كونهم أقوياء العالم وأسياد الهمجية، مع أدواتهم سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، هل يمكن للحضارة أن تقدم رؤية جديدة توقف هذا الغزو الهمجي الهائل للعقل الإنساني والخوف، كل الخوف، من أن تتحول هذه الهمجية إلى ثقافة. د. نبيل طعمة |
|