د. نورا أريسيان تدوّن حياة الأرمن السوريين … سوقيات الأرمن حديث عن الأحوال السياسية والإدارية في دير الزور
الثلاثاء, 12 حزيران, 2018
يعد هذا الكتاب بحثاً توثيقياً استقصائياً لوضع الأرمن في مدينة دير الزور السورية، دبجه الدكتور نبيل طعمة بتقديم لطيف بين فيه أهمية الكتاب، وأثنى على مؤلفته ذاكراً بعض مآثرها، وتكوينها الثقافي والفكري الفريد؛ فهي خريجة جامعة دمشق_قسم اللغة الفرنسية، ومحاضرة فيها، حاصلة على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة أرمينيا، بالإضافة إلى نشاطها السياسي والدبلوماسي وهي أول امرأة أرمنية في برلمانات الوطن العربي، أثرت مكتبتنا العربية بمجموعة من المؤلفات والترجمات المتمحورة حول مأساة الأرمن وتشردهم في البلاد، فقد حملت أعباء شعبها الأرمني وما لاقاه من آلام المجازر الشنيعة التي ارتكبت بحقه من العثمانيين إبان حكمهم الاحتلالي للوطن العربي الممتد لأكثر من أربعة قرون الطافح بالدماء ودوّن في سجل إجرامهم تصفية مايقرب من مليون وخمسمئة ألف أرمني على الأراضي العثمانية التركية وفي شمال سورية أيضاً.
وانطلاقاً من إيمان الدكتورة نورا أريسيان بهموم وطنها السوري وبقضية شعبها وقومها الأرمني وضعت بين أيدينا هذا الكتاب الصادر عن دار الشرق_ 2018، يقع في 135 صفحة ابتدأته بمقدمة وأنهته بخلاصة موجزة وبعض الصور التوثيقية لمدينة دير الزور وكنيسة «الشهداء الأرمن» فلقد بني هذا الكتاب على أساس دراسة وتحليل المصادر والمراجع السورية لتوضيح مسألة الوجود الأرمني في دير الزور وأحوال المدينة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فهو كتاب فريد ومهم في بابه نظراً لكمية الدراسات التأريخية الشحيحة التي تناولت مأساة الأرمن ولكونه أول بحث علمي باللغة العربية ضمن إطار الدراسات التي تناولت قضية تهجير الأرمن إلى دير الزور ووجودهم فيها من خلال دراسات سورية تغطي منطقة الفرات.
يكشف لنا الكتاب عن الأحوال السياسية والإدارية لمنطقة دير الزور، فترة الإمبراطورية العثمانية وما بعدها، المختلف في تسميتها التاريخية؛ حيث كان لها عدة تسميات مثل (دير الرهبان) و(دير الرمان) كما أطلق أهل البادية عليها اسم (دير العشائر) لاشتهار أهلها بقول الشعر والغناء والطرب وكثرة شعرائها، ومنهم الشاعر (محمد الفراتي)، وسميت دير الزور كذلك بعجوج نظراً لكثرة العجاج و(دير الرحبة) على اسم القلعة القديمة في جنوب الميادين، أما تسمية (دير الزور) فتعود إلى عام 1864 عندما جعل العثمانيون من الدير مركزاً لسنجق (لواء) لهم. والدير كانت تدل على المكان؛ بمعنى الدار، أما الزور فلها تأويلات مختلفة، مثل الأعوج لازورار الفرات عند موقع الدير، وغيرها.
كما تعرج الكاتبة في كتابها على الحديث عن سكان دير الزور وأهم القبائل التي ينسب إليها معظم السكان، قبيلة البكارة وقبيلة العقيدات. وبالاطلاع على الدراسات الديموغرافية للمدينة نرى أن التركيبة السكانية للمنطقة على قسمين: السكان العرب القدامى المستقرين في المدن التاريخية مثل دير الزور والميادين، والقبائل العربية التي قدمت إلى المنطقة في القرون الأربعة الماضية.
وفي حديثا عن أحوال المدينة تحت الحكم العثماني تبين كيف كرس العثمانيون ظاهرة التخلف مع ما رافقها من تعميم الذهنية الغيبية البعيدة عن العلم، وتدمير القيم التنويرية المتمردة على الواقع وتحطيم ماتبقى من مؤسسات علمية وثقافية بغية استمرار التجهيل إلى جانب الاضطهاد والظلم وممارسة كل أنواع العنف الذي أنهك البلاد والعباد. ولكن على الرغم من ذلك استطاعت عشائر الفرات الحفاظ على كيانها العربي وعلى لغتها ومقوماتها. أما على صعيد الحكم ونظم الإدارة، فقد اتبع العثمانيون أسلوباً إدارياً يقوم على نقطتين: التقسيم الإداري الدقيق وتغيير الولاة حتى يقللوا من عمليات الاستقلال، ويقضوا على الحركات التي قد تنشأ ضدهم. وتم الانسحاب التركي نهاية، إثر الحرب العالمية الأولى وانهزامهم في ساحات القتال، على يد المتصرف التركي (حلمي بك) الذي عوقب بالإعدام بسبب انسحابه من المدينة وتخسيره العثمانيين مدينة ذات أهمية عسكرية وإستراتيجية واقتصادية مهمة جداً، فقد كانت عقدة مهمة في طريق الملاحة النهرية ونشطت كمركز تجاري يتحكم بالفرات الأوسط وهذا ما منحها أهمية أخرى لجعلها متصرفة مستقلة ممتازة، إضافة إلى ما تحتويه من ثروات باطنية، ولكونها تتربع على مساحة جغرافية مهمة. وتضع لنا الدكتورة نورا في هذا الفصل قائمة الولاة والحكام الذين حكموا دير الزور ومنطقتها حسب السالنامات العثمانية بدءاً من عام 1696 إلى عام 1945م.
بعد هذا العرض التمهيدي السريع لحال المدينة والتعريف بمكوناتها وتاريخها تنتقل الكاتبة إلى محور كتابها وتدخل صلب قضيتها، فتخصص فصلاً كاملاً لدراسة المصادر الأرمنية التي أرخت أحوال الأرمن في الدير، من خلال اعتمادها على أرشيف مطرانية الأرمن الأرثوذوكس لأبرشية حلب وتوابعها والكتاب السنوي (تقويم الجميع) للكاتب الأرمني وشاهد العيان تيوتيك، بالإضافة إلى صحيفة (يبراد) «الفرات» الصادرة بالأرمنية في حلب وغيرها من الدراسات والمذكرات التي كتبت في تلك الفترة الزمنية في محاولة لتسليط الضوء على أحوال الأرمن بصورة موضوعية حقيقية وتفاصيل حياتهم على جميع الصعد ولتوضيح رعاية كنيسة الأرمن الأرثوذوكس ومتابعتها للمجتمع الأرمني هناك. فقد أصبخ لديهم كنيسة ومكتبة ومدرسة وأفرع لجمعيات خيرية بالإضافة إلى عدد من مظاهر الحياة الثقافية والتنظيمات الاجتماعية، كما أوردت في هذا الفصل عدداً من الجداول توضح التطور السكاني ونموه من خلال إحصائيات ترصد عدد السكان وتوزعهم الديموغرافي وعدد حالات الزواج والوفاة وعدد المتعلمين، ووفقاً للمعلومات التي استقصاها تيوتيك من موظف الإحصاء يقول إن عدد الأرمن المسجلين والمجتمعين في دير الزور وحولها 72 ألف عائلة. وفي سياق الحديث عن مآسي هذا الشعب المقهور تأتي د. نورا على ذكر حادثة المذبحة التي قتل فيها الشيشان الأرمن بوحشية ومسكنة «الاسم الذي يثير الرعب» وكيف أرشف ذلك الكاثوليكوس هذا المشهد من أمام دير الزور فكتب مايلي: «رأينا تلك السهول القاحلة حيث تمت تصفية الشعب الأرمني، بعد أن تم تهجيره من دياره العامرة. دير الزور… مسلخ الأرمن، اسم تقشعر له الأبدان بالنسبة للأرمن ومازالت تلك القشعريرة تسري في أوردتنا كالحمى. وسكان هذه المدينة وماحولها، الذين شهدوا على ذبحهم وجرى الاعتقاد أنه لم يبق أرمني على وجه الأرض… ولكن الآن يهمسون: من الآتي، ومن ذا الذي يمجَّد في استقباله؟».
«المصادر السورية»
تعد الأبحاث والدراسات التي أنتجها السوريون في غاية الأهمية لما حملته لنا من تفاصيل الإبادة والتهجير، ولعل أهم تلك المصادر هي مؤلفات أحمد وصفي زكريا التي تتمثل في تدوين لمذكراته في دير الزور، فكانت من أهم المواد الأرشيفية، وتذكر الدكتورة أن في كتابه (ذكريات حول الفرات 1916) و(رحلة إلى الفرات) دوّن ذكريات جولته، التي تضم أحداثاً تاريخية وقعت في تلك الفترة وتناولت تفاصيل الوضع الاجتماعي بشكل دقيق، كما نرى في جنبات مذكراته أيضاً توصيف عواقب عمليات التهجير والإبادة. فباتت الدكتورة تقطف من أرشيفه ومن مصادر أخرى كثيرة وتضعها بين أيدينا في هذا الفصل الشائق والمبكي في آن معاً.
أعقبت المؤلفة هذا الفصل المطول بفصل صغير تناولت فيه شهادة الصحافة السورية حول وجود الأرمن في دير الزور، فقد أفردت الصحافة السورية صفحاتها لتوضيح عمليات التهجير والإبادة التي تعرض لها الأرمن في الإمبراطورية العثمانية وتوصيف لوضع الناجين من الإبادة أيضاً، فعكفت المؤلفة على دراسة الصحف السورية وتابعت تسلسلها الزمني لتوثق لنا بعضاً من تلك الفظائع التي وردت في الصحف «قد روى لنا جنود من الأتراك أنفسهم أن نسوة كثيرات استجرن بهم راكعات أمامهم، وأن بعضهن ألقين بأولادهن في عقيق النهر لإنقاذهن من عذاب الذبح… كانوا يأخذون عشرات منهم كلما اجتازوا مسافة ويذبحونهم على مشهد من ذويهم ويلقونهم في الحقول وكانوا يتفنتون بكسر جماجم الأولاد الذين يعجزون عن المشي واللحاق بالقافلة، ويهتكون أعراض النسوة والأبكار».
وفي الفصل الأخير نقف على شهادات لشخصيات من دير الزور، حيث طرحت المؤلفة استبياناً على عدد من المفكرين والأدباء السوريين فيما يتعلق بعلاقتهم مع الأرمن وتاريخ وجودهم ورأيهم في قضية الإبادة كالمؤرخ والباحث أحمد شوحان وزبير سلطان مدير الثقافة في محافظة دير الزور وعبد العزيز محمد الدروبي…
«الخلاصة»
في الختام تشير المؤلفة إلى أن وجود الأرمن في دير الزور تاريخي، ولكن نتيجة الإبادة أخذ شكلاً مختلفاً، وقد كانوا في الفترة الأولى يتجنبون تملك العقارات والأراضي لقناعتهم بالعودة ولكن بعد الاستقرار تملك الأرمن المنازل والعقارات ومارسوا حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية كسائر أبناء المنطقة، وتورد نهاية بعض الاستنتاجات التي تلخص ما جاء ذكره في الكتاب بشكل مكثف وتعيد ترتيب ما قد تبعثر في ذهنك أثناء أهوال القراءة، فتشير إلى تلك الحميمية التي خلقت بين الأرمن وسكان دير الزور الأصليين وكيف أصبحت دير الزور جزءاً من ذاكرة الشعب الأرمني، حيث سكنت أدبياتهم وأشعارهم ومسرحياتهم، وهم في نهاية الحرب على الإرهاب الآن يشاركون السوريين حلمهم بإعادة إعمار المدينة وترميم الكنيسة الأرمنية التي فجرها المتأسلمون الإرهابيون ليزيدوا جراحهم جراحاً.
كتاب ورقي يسافر بك إلى الدير لترى الأحداث بعينيك كما لو كنت تحضر فيلماً وثائقياً شائقاً وغنياً بالوثائق والشهادات والإضاءات الموضوعية الشفافة. فتتذوق مرار هذا الشعب المشتت، المذبوح نرجسياً في العمق، وتتساءل: من أجل ماذا كل هذا؟