مجلس الشعب السوري
اسم المستخدم
كلمة المرور
نسيت كلمة المرور
تسجيل جديد
 الرئيسية   مكتبة المجلس  المكتبة الإلكترونية

مقاربة فقهية لسكنى الحاضنة وصندوق النفقة ومحاكم الأسرة

الثلاثاء, 5 أيار, 2015


مقاربة فقهية لسكنى الحاضنة وصندوق النفقة ومحاكم الأسرة

ورقة عمل الدكتور محمد حبش

 

نظر الإسلام إلى الحياة الزوجية نظرة واقعية، فمع أنه يقدس علاقات الزواج ونظام الأسرة ولكن الفقه الإسلامي جاء واقعيا تماما مع مشاكل الأسرة ، واعترف بالطلاق حلا لمشاكل اجتماعية لا بد من التعامل معها، وهو بذلك سجل سبقاً في التشريع الديني ربما تجاوز الموقف الأوروبي بأكثر من ألف عام، ففي حين ظل الطلاق ممنوعاً في النظام التشريعي الأوروبي الكنسي، ولا يزال إلى اليوم مشكلة عويصة لا يوجد لها حل، فالالتزام بظاهر النصوص الدينية يجعل هذا الباب مغلقاً بالكلية أمام الأسرة، والجحيم الذي يعيش فيه زوجان غير متآلفين لا يبدو له آخر إلا بالموت أو بإثبات الفاحشة المبينة، وقد أصبح شائعاً أن الزوجين قد يتواطآ في إثبات ذلك في سبيل خلاص لا يوجد عنه بديل، فما جمعه الله لا يفرقه أحد، وهكذا فقد تم تعظيم عقد الزواج وتقديسه ولكن المبالغة في تقديسه في النهاية جعلت من نظام الأسرة قدراً طوباويا، يحكمه الحظ في أوله وتحكمه إرادة الكهنوت في آخره.

وحتى لا نغرق في التحليل فالمطلوب هنا فقط التنبيه إلى أن الفقه الإسلامي الذي نلتمس فيه حل تداعيات الطلاق هو فقه واقعي اعترف بالطلاق في نظام الأسرة ولذلك فإنه قدم حلولاً واقعية تنبثق من الواقع وتهتدي بروح الشريعة الغراء.

ومع أن اللقاء مخصص للبحث في موقف الفقه الإسلامي من مسائل محددة تتصل بالنفقة والسكنى ومحاكم الأسرة فإن ما يجب قوله هنا هو أن الإسلام نص على بغض الطلاق عند الله ويقول النبي الكريم الطلاق أبغض الحلال إلى الله، وشرع كثيراً من الأحكام التي تحول دون وقوع الطلاق من الموعظة والهجر والتحكيم والقضاء ولكنه مع ذلك لم يشأ أن يسيء إلى المطلقة، ومنحها حقوقاً تتناسب مع ظروفها الاجتماعية القاسية ، وبسبب من ذلك فإن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حين ماتت زوجته وشريكة كفاحه تزوج أكثر من امرأة مطلقة، فتزوج حفصة بنت عمر وهي أرملة خنيس بن حذافة وتزوج زينب بنت جحش وهي مطلقة زيد بن حارثة، وتزوج رملة بنت أبي سفيان وهي مطلقة عبيد الله بن جحش، وخطب أم هانئ وهي مطلقة هبيرة بن عامر بل إن زوجته الأولى خديجة كانت مطلقة وأرملة في آن معاً،  وكان يشير بذلك إلى واجب المجتمع في احترام المطلقة ورعاية حقوقها ، وفي هذا الإطار نضع حالات التعدد التي كانت شائعة آنذاك والتي كانت تهدف أساسً إلى مساعدة الأرملة والمطلقة وتخفيف معاناتهما.

ومعاناة المرأة المطلقة اليوم ذات شقين اثنين، الأول نفسي وتربوي، والثاني مادي وتشريعي، فهناك أولاً نظرة المجتمع إلى المرأة المطلقة وهي نظرة تتسم بالقسوة والريبة ولا تساعد المرأة على تجاوز محنتها التي ابتليت بها بسبب وقوعها تحت ظرف زواج فاشل، ولأجل ذلك فإن إحياء سنة النبي الكريم وثقافة السلف الصالح في احترام المطلقة والإحسان إليها يبدو ضرورياً هنا من اجل رفع هذا اللون من المعاناة عن المرأة.

 ومن جانب آخر فإن القانون لا يزال يتعامل مع المرأة المطلقة بتقصير شديد، حيث تم اختيار وجه واحد في الفقه الإسلامي وغابت وجوه كثيرة من الفقه كانت أصلح لأحوال المرأة وأكثر ملاءمة لظروفها وحاجاتها.

وهذا البحث سيتناول بوجه خاص تخير المسائل من الفقه الإسلامي على قاعدة اختيار الأصلح مما ذهب إليه الفقهاء، وهذه القاعدة التي نتحدث عنها هنا كانت منهج الفقهاء في عصر النهضة الفقهية، وكان ترجيحهم للأمر بناء على قناعتهم بأنه الأصلح للناس، ولكن مع همود الاجتهاد وقعود الأمة عن واجبها في الاجتهاد وقع التباين بين الأرجح والأصلح، فأصبح ما رجحته الأمة في عصر من العصور لا يحقق الأصلح للناس في زماننا ، واكتفى الآخرون بتكرار ما قاله الأولون، وقعدوا عن تطبيق قاعدة تتغير الأحكام بتغير الأزمان، وقاعدة الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وما ثبت لشيء يزول بزواله، وحيث ما كانت المصلحة فثم شرع الله، وغيرها من القواعد الفقهية التي تعالج معاناة الناس على أساس من التزام ثوابت الأمة والكتاب والسنة.

وباختصار فإن هذا البحث معني باختيار الأصلح مما ذهب إليه الفقهاء، وليس الأرجح مما تخيره المرجحون، ولكن ذلك كله يدور في مقاصد الشريعة الغراء وثوابتها، وروح النص الإسلامي من الكتاب والسن

 

سكنى الحاضنة

لا خلاف أن إسكان المرأة في سكن شرعي واجب على الزوج كما دلت على ذلك عمومات الكتاب في قوله تعالى الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهن، ولم يخالف في ذلك أحد من أهل العلم وهو مقتضى العقل والنقل، وهو مما أمرت به الشريعة في تكريم المرأة وتوفير حقها وحاجتها من السكنى والنفقة، ولكن الحقوق التي اختلف فيها الفقهاء إنما تتصل بحق السكنى عند انحلال عقد الزواج بالطلاق أو الخلع أو الوفاة.

 

تحدث الفقهاء كثيراً عن حق المطلقة في السكنى والنفقة، وذلك وفق أربعة أحوال:

الأول: حق المطلقة الرجعية:

ويمكن القول بأن الفقهاء اتفقوا على حق المطلقة الرجعية في السكنى والنفقة، قال الإمام ابن رشد في بداية المجتهد: اتفقوا على أن للمعتدة الرجعية النفقة والسكنى، وكذلك الحامل لقوله تعالى في الرجعيات:‏ أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم‏ ، وقوله تعالى ‏‏وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن‏، ولا نعلم في المسألة خلافاًً.

 بل إن الفقهاء نصوا على وجوب توفير السكن وإذا لم يكن البيت كافياً وجب خروج الرجل منه لأنه أقدر على تأمين مبيته وتبقى المرأة فيه إلى أن يراجعها الزوج فتعود زوجة أو تنقضي عدتها منه.

وقد حرر هذه المسألة الفقيه المالكي أشهب فيما رواه عنه الإمام القرطبي في التفسير  أسكنوهن من حيث سكنتم : قال أشهب عن مالك:  يخرج عنها إذا طلقها ، ويتركها في المنزل ; لقول الله تعالى : أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم، فلو كان معها ما قال : أسكنوهن

الثاني: حق المطلقة البائنة

 فإن كانت حاملاً وجبت لها النفقة بأنواعها بالاتفاق، لقوله تعالى وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن، وإن كانت غير حامل فقد اختار الحنفية وجوب النفقة أيضاً بكل أنواعها من سكنى وطعام وكسوة بسبب احتباسها في العدة لحق الزوج.

أما الحنابلة والظاهرية فلم يروا وجوب ذلك واستدلوا بحديث فاطمة بنت قيس أنها قالت ‏"‏طلقني زوجي ثلاثا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة‏"‏ خرجه مسلم، وفي بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏إنما السكنى والنفقة لمن لزوجها عليها الرجعة‏"‏ وهذا القول مروي عن علي وابن عباس وجابر ابن عبد الله‏.‏

واختار الفقهاء المالكية والشافعية في المسألة أن للمطلقة المبتوتة السكنى وليس لها النفقة، استلالاً بالآية الكريمة أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم فإنه أوجب السكنى مطلقاً سواء كانت حاملاً أم غير حامل، ولم يوجبوا لها نفقة الإطعام والكسوة إلا إذا كانت حاملاً استدلالاً بالآية الكريمة وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن، فمنطوق النص وجوب الإنفاق على الحامل حتى تضع ومفهومه عدم وجوب ذلك على غير الحامل

روى ابن نافع قال : قال مالك في قول الله تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم } يعني المطلقات اللاتي قد بن من أزواجهن, فلا رجعة له عليهن، وليست حاملا، فلها السكنى ولا نفقة لها ولا كسوة; لأنها بائن منه, لا يتوارثان ولا رجعة له عليها .

وبالجملة فقد لخص الإمام القرطبي أقوال الفقهاء في  سكنى المبتوتة ونفقتها إذا لم تكن حاملا على ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها أن لها السكنى والنفقة، وهو قول الكوفيين (الحنفية) والقول الثاني أنه لا سكنى لها ولا نفقة، وهو قول أحمد وداود وأبي ثور وإسحاق وجماعة‏.‏ والثالث أن لها السكنى ولا نفقة لها، وهو قول مالك والشافعي وجماعة‏.

الثالث: المعتدة من وفاة

اتفق الفقهاء على أن المعتدة من وفاة لا نفقة لها بالاتفاق لانتهاء الزوجية بالموت، حيث ينتقل الإنفاق عليها إلى حصتها من التركة، أما السكنى فقد أوجب المالكية لها السكنى مدة العدة ارتفاقاً إذا كان المسكن مملوكاً للزوج، والحكم نفسه إذا كان مستأجراً وقد سدد الزوج أجره لما يكفي فترة العدة.

وقد اختار ابن عباس أن الإقامة في بيت الزوج للمرأة موصولة إلى عام كامل أخذاً بظاهر الآية الكريمة: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج، فجعل إقامتها في بيت الزوج حقاً لها ارتفاقاً ولو استلمت حصتها من التركة بالغة ما بلغت، وهو موقف يهدف إلى حماية المرأة وتحقق استقرارها النفسي والاجتماعي في الظرف العصيب الذي يعصف بها لدى موت زوجها.

الرابع : المعتدة من طلاق فاسد

فلا نفقة لها عند جمهور الفقهاء، إذ لا نفقة أصلاً في الزواج الفاسد فكذلك في العدة منه، ولكن المالكية نصوا على ذوات الأحمال فيجب الإنفاق عليهن ولو كان الحمل من نكاح فاسد.أما النكاح الباطل فلا أثر له ولا تترتب عليه أي التزامات وما بني على باطل فهو باطل.

وهكذا فيمكن القول إن الفقهاء تقريباً متفقون على وجوب إسكان المرأة في فترة العدة من مال الزوج مع تفريقهم بين الرجعية والمبتوتة من النساء.

وأما إسكان المرأة بعد انتهاء عدة الطلاق والوفاة فقد بحثها الفقهاء تحت عنوان سكنى الحاضنة، وقد اتفق الحنفية على المختار وكذلك في القول المشهور عند المالكية على وجوب أجرة مسكن الحضانة للحاضن والمحضون إذا لم يكن لهما مسكن، لأن أجرة المسكن من النفقة الواجبة للصغير، فتجب على من تجب عليه نفقتهن باجتهاد القاضي أو غيره بحسب حال الأب.

وكذلك اتفقوا على وجوب أجرة الخادم إذا احتاج الصغير إلى خادم، لأنه من لوازم المعيشة، وأشار الزحيلي إلى أن المذاهب الأخرى متفقة ضمناً مع هذا الرأي .

واتفق الفقهاء على أن نفقة الحضانة تكون في مال المحضون إن كان له مال، فإن لم يكن له مال فعلى الأب أو من تلزمه نفقته، لأنها من أسباب الكفاية والحفظ والإنجاء من المهالك، وإذا وجبت أجرة الحضانة فتكون ديناً لا يسقط بمضي المدة ولا بموت المكلف بها أو موت المحضون أو موت الحاضنة.

وقد أيد قانون الأحوال الشخصية ذلك ونصت المادة 142 على المكلف بنفقة الحضانة: أجرة الحضانة على المكلف بنفقة الصغير وتقدر بحسب الحال المكلف بها.

ويلاحظ أن المادة قاصرة عن بيان المقصود بأجرة الحضانة، وخاصة مسألة إسكان الحاضن والمحضون، فلم يرد في قانون الأحوال الشخصية في مواد الحضانة من 137 إلى 151 ما يشير إلى متطلبات الحضانة، وقد تم اعتماد الاجتهاد القضائي لتفسير ذلك وهو نقص في القانون يتعين استدراكه بحيث ينص صراحة على واجب من عليه النفقة بتأمين سكن للحاضن والمحضون.

 ونصت المادة 144 على حالة إعسار المكلف بالنفقة وتبرع أحد المحارم بالحضانة : " إذا كان المكلف بأجرة الحضانة معسراً عاجزاً عنها وتبرع بحضانة الصغير أحد محارمه، خيرت الحاضنة بين إمساكه بلا أجرة أو تسليمه لمن تبرع".

كما لم ينص القانون على شيء فيما يتصل بحقوق الحاضنة بعد إكمال الأطفال السن القانونية للحضانة وهي الثالثة عشرة للفتى والخامسة عشرة للفتاة وفق التعديل الصادر عام  2003 خاصة وأن كثيراً من الحضانة تستمر بعد ذلك طوعاً بإرادة الزوج ولكنها لا تلزمه قانوناً بأي وجه من النفقة.

سكنى المطلقة غير الحاضنة:

وهكذا فإن الفقه الإسلامي في المصادر المتوفرة لدينا يتحدث عن السكنى للزوجة والمعتدة والحاضنة، ولم يشر إلى المطلقة غير الحاضنة بشيء، وهذا يؤسس لضرورة تقديم قراءة فقهية جديدة وفق ثوابت الشرع لإنصاف المرأة التي تطلق بعد سنين طويلة من الزواج وتجد نفسها خارج إطار الحياة الزوجية، وهو ما نراه اليوم في حالات كثيرة حيث تطلق المرأة بعد عشرين عاماً من الزواج وتجد نفسها لا تملك إلا المهر المنصوص عليه، إن قدرت على تحصيله، والذي يكون غالباً قد فقد قيمته الشرائية نظراً لاستمرار التضخم وهبوط القيمة النقدية للعملات ومنع القانون التعاقد بغير العملة الوطنية في وثائقه، وتتسبب هذه المعاناة في كثير من حالات التشرد أو ما يشبهها في المجتمع السوري، حيث لا تجد المرأة غالباً البيت الذي تزوجت منه فقد مات أبوها وأمها ووزعت التركة، ووجدت المرأة نفسها بلا سقف يظلها وتلجأ هنا إلى بيوت الأقارب وهو ما يفاقم من معاناتها وعذابها، ولا يوجد هنا في قانون الأحوال الشخصية الحالي ما ينصفها ويرفع عنها المعاناة.

والحقيقة أن رفع المعاناة عن هذه المرأة ينبغي أن يتأسس على قواعد الشرع من حفظ الحقوق المدنية للناس، خاصة فيما يتصل بالمرأة العاملة التي يفترض أنها أنفقت ما جنته خلال حياتها في تأسيس أسرتها والارتقاء بوضع بيتها، وتوفير حياة أكرم لأولادها وهو في الواقع مسؤولية الرجل وقد أنفقته المرأة حباً وكرامة ولكنه لا يدون في السجل العقاري ولا ينشئ لها أية حقوق تتصل بالعقار الذي تسكنه ويبقيها حكماً عند حدود إحسان الرجل ووفائه وليس على مقاطع الحقوق.

والذي نقترحه هنا يتوافق مع الشريعة في أصولها العامة وهو اعتماد طريقة لاحتساب ما أنفقته المرأة العاملة في الحياة الزوجية، مع التنويه هنا بأن قيام المرأة بواجباتها الزوجية من تربية الأطفال وحضانتهم وخدمة المنزل هو نفسه لون من العمل الذي يجب تقويمه مادياً مع التأكيد بأن قيمته المعنوية أكبر من أن يتم تقويمها بثمن.

ووفق هذا فإن المرأة المطلقة بعد عشرين عاماً تستحق تعويضاً أكبر من المرأة التي طلقت بعد سنتين على سبيل المثال، ويتم تقويم هذا الحق بمعايير عادلة تحقق هدف الشريعة في إنصاف الرجل والمرأة على السواء، وتفرض الالتزامات على الرجل الذي يتعسف في استعمال حق الطلاق.

ويمضي الحنابلة على أن هذا الحق لو تم اشتراطه في العقد فإنه يغدو شرطاً ملزماً لا خلاف فيه لقوله صلى الله عليه وسلم إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج، وبناء عليه فإن المسألة مؤصلة في الفقه الإسلامي إذا تم النص عليها في العقد، وهو جانب من إعمال قوله صلى الله عليه وسلم المسلمون عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً، وهنا فإنه يمكن أن يصدر عن وزارة العدل تقويم مادي لاحتساب نفقات الحياة الزوجية التي يتبادلها الزوجان وأن يكتفى في العقد بأن الزوجين متفقان على احتسابها وفق القانون وهذا يجعلها ملزمة لكل منهما عند الانفصال فقهاً وقانوناً.

ولكنني أطالب بأن يعترف القانون بهذا الحق ولو لم ينص عليه الزوجان عند العقد، تأسيساً على قوله تعالى:  ولا تبخسوا الناس أشياءهم، وكذلك قوله: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، حيث أقر المشرع أن إنفاق المرأة فيما لا يلزمها إنفاقه شرعاً مع إقرار الزوج بهذه النفقة ورضاه بها يؤسس لها حكماً المطالبة باسترداده لدى وقوع الشقاق، تأسيساً على القاعدة الشرعية الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة، فحيث أقر الزوج بأنه علم بإنفاقها فيما يلزمه هو أن يؤديه لزمه الحق .

وقد نصت المادة 71 من قانون الأحوال الشخصية على أن النفقة الزوجية تشمل الطعام والسكنى والتطبيب بالقدر المعروف وخدمة الزوجة التي يكون لأمثالها خادم، ويلزم الزوج بدفع النفقة إلى زوجته إذا امتنع عن الإنفاق عليها أو ثنت تقصيره.

 وفي المادة 76  تقدر النفقة للزوجة على زوجها بحسب حال الزوج عسراً ويسراً مهما كانت حالة الزوجة على أن لا تقل عن حد الكفاية للمرأة.

ولمزيد من الاستئناس فإن قدري باشا الذي يعتبر أحد المصادر الرئيسة لقانون الأحوال الشخصية اعتبر أن النفقة تشمل جوانب كثيرة، ومنها ما ورد في مواده  من 160 إلى 165 على ما يجب على الزوج من النفقة، ولدى التأمل يبدو لك أن ما نص عليه قدري باشا من التزام الرجل بالإنفاق تؤديه في حالات كثيرة المرأة دون الرجل في زماننا وتحول العلاقة الزوجية المستقرة عن المطالبة به أو تسجيله ولكن المطالبة به عند الشقاق يتعين وفق القاعدة الشرعية الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة.

على سبيل المثال المادة 161 تجب النفقة على الزوج من حين العقد الصحيح على الزوج ولو كان فقيراً أو مريضاً أو عنيناً أو صغيراً لا يقدر على المباشرة للزوجة غنية كانت أو فقيرة مسلمة أو غير مسلمة  كبيرة أو صغيرة، ونصت المادة 161 تجب النفقة للزوجة على زوجها ولو هي مقيمة في بيت أبيها ما لم يطلبها الزوج بالنفقة وتمتنع بغير وجه حق وفي المادة 162 تجب النفقة للزوجة ولو أبت أن تسافر مع زوجها أو منعت نفسها لاستيفاء ما تعارف تعجيله من المهر، وفي المادة 165 ذهبت المادة إلى ما هو أبعد من ذلك فنصت على أن المرأة إذا زفت إلى الزوج بخدم كثير استحقت نفقة الجميع عليه إن كان ذا يسار، وإذا رزق أولاداً لا يكفيهم خادم واحد يفرض عليه نفقة خادمين أو أكثر على قدر حاجة أولاده.

وإنني أستغرب أن يمضي قانون الأحوال الشخصية إلى هذا التفصيل فيما يتصل بحالات خاصة ونادرة من هذا الإنفاق وأن يقصر عن بيان الحقوق التي تؤديها معظم النساء، عن طريق إنفاق مالها أو بذل جهدها فيما يلزم الرجل الإنفاق عليه، وهذه الحقوق لا بد أن ثبتت في ذمة الرجل سواء على قاعدة الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة أو على قاعدة الإثراء بلا سبب التي يحاسب عليها الشرع والقانون.

وبالقياس فإن القانون المدني مضى إلى وجوب التعويض على العامل عند تسريحه بما يتناسب مع عمله فينال من خدم عشرين سنة أكثر مما ينال من خدم سنة واحدة ، وهو محل اتفاق بين الشرع والقانون فإذا كان ذلك ثابتاً في حق العامل لمجرد عمله فكيف لا يثبت للمرأة مثل هذا الحق، إضافة إلى أن المرأة خاصة المرأة العاملة قد تكون أنفقت مادياً نفقات كثيرة خلال تلك الفترة لا تلزمها شرعاً وقد أقرها الزوج لاحقاً، بل ربما طلبها منها سابقاً وفي الحالين فيفترض أن يحفظ لها الشرع حقها إن بالوكالة السابقة أو بالإجازة اللاحقة.

وأقترح هنا أن يتم احتساب أجر المثل على هيئة مبلغ سنوي، يقرر سقفه القاضي بحسب حال الزوج من اليسار والإعسار بمثابة معيار حقوقي للتعويض على المرأة عند وقوع الطلاق، ويجري فيه ما يجري في قانون العمل من التعويض.

ومن الممكن اعتماد خيار آخر يمنح القاضي صلاحية تقدير ما أنفقته المرأة في الدار مما يلزم به الزوج، ومنه ضمناً خدمة البيت والاعتناء به بالسعر المتداول وفق تقرير الخبرة القضائية بشرط أن لا يزيد ذلك سنوياً عن دخل الزوج لثلاثة أشهر في حال عدم وجود فرع وارث وشهر ونصف في حال وجود فرع وارث، ولا يحق لها في هذه الحالة الترافع في المحكمة المدنية.

أما ما أنفقته المرأة من نفقات يمكن إثباتها بالوسائل المدنية فمحل التخاصم فيها المحكمة المدنية وفق طرق الإثبات المعتمدة، على أساس التنازع المدني وليس على أساس قانون الأحوال الشخصية، وفي هذه الحالة فليس لها التخاصم في المحكمة الشرعية.

إن إنصاف المرأة بما يرفع عنها الحيف لدى طلاقها يتطابق تماماً مع ثوابت الشريعة الغراء التي نهت عن أكل الحقوق بالباطل، ويتفق تماماً مع ما أمرت به الشريعة من العدل، إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً.

صندوق النفقة

هو الأداة التطبيقية لإنفاذ الحقوق المالية التي أوجبها الشرع على الرجل من الإنفاق سواء في الأسرة القائمة أو الأسرة المنحلة.

والشريعة جاءت واضحة صريحة في وجوب قيام الرجل بالإنفاق على المرأة بما يكفيها بالمعروف سواء أكانت غنية أم فقيرة، قال تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم.

وقد أذن النبي صلى الله لهند بنت عتبة أن تأخذ من مال زوجها ولو بدون إذنه ما يكفيها وبنيها بالمعروف، قالت يا رسول إن أبا سفيان رجل شحيح فهل علي إن أخذت من ماله نفقتي فقال لها: خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف.

وقد اعتمد القانون المصري الصادر في 5/7/1993  إحداث صندوق النفقة  وهو يتمثل في آلية تمكن الدولة عن طريق صندوق أحدثته للغرض من دفع مبالغ النفقة المستحقة للمرأة التي تحصلت على حكم نهائي وبات في الطلاق وفي النفقة في حق نفسها وفي حق أبنائها القصر وذلك فيما لو تردد الزوج في تنفيذ حكم النفقة.

ولا شك أن هذا المشروع ينسجم مع أحكام الشرع وتشوفه لقطع المنازعات وإيصال الحقوق إلى أصحابها وفض المنازعات ما أمكن، وكذلك ما أكدته نصوص الشريعة من شح الإنسان في أداء ما عليه وعدم ترك ذلك للمطالبة المباشرة بين المرأة والرجل عموماً خاصة بعد وقوع الطلاق وما يتبعه من تباغض وكيد، قال تعالى: وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بكل شيء عليماً.

إضافة إلى أن منحه صفة الصندوق يسهم في قيامه بمهامه على وجه أفضل، وكذلك يتيح الفرصة لدعم حكومي وأهلي لأهداف الصندوق، إضافة إلى مهمته الأصلية في التوسط بين المستحق له والمستحق عليه.

ولا ينص قانون الأحوال الشخصية في سوريا على صندوق النفقة ولكن ينص على دائرة التنفيذ، وليس لدى الفقه الإسلامي موقف من اعتماد أي من الصيغتين طالما أنها تحقق مقاصد الشرع في إنصاف المرأة والرجل وأداء النفقة ممن وجبت عليه ووصول النفقة إلى مستحقها.

محاكم الأسرة

تتردد المطالبات بين الحين والآخر بإحداث محاكم الأسرة في سوريا وذلك تساوقاً مع اعتماد هذه التسمية في عدد من البلاد العربية التي اختارت تسمية محاكم الأسرة رغبة في قيام هذه المحاكم بدور أكبر في فض المنازعات، وكذلك تحديد مقاطع الحقوق الأسرية ولو لم تكن نتيجة خصام أو شقاق، وذلك بهدف تعيين الهدف النهائي لهذه السلطة القضائية وهي تنظيم الأسرة ومساعدتها عن طريق الصلح أولاً ثم القانون، فيما توحي تسمية المحاكم الشرعية بأن الهدف هو تطبيق القانون أكثر من حماية الأسرة.

ولعل الهدف هنا هو أن تشتمل محاكم الأسرة على المحاكم الدينية والمذهبية المختلفة، وأيا ما كانت الأهداف المرجوة من قيام هذه التسمية فإن ما يعنينا هنا هو التزامها أحكام الشريعة الغراء، وفق رؤية تجديدية تسمح باعتماد الأصلح للناس من اختيارات الفقهاء، بغض النظر عن المذهب الفقهي الذي التزموه أو الطريقة السلفية أو الصوفية التي يختارونها، أو المنطق التجديدي الذي يتبنونه، طالما ظلت الخيارات ملتزمة ثوابت الكتاب والسنة من تحقيق العدل ودرء الظلم وإنصاف الناس.

إنها محض مقاربات أتمنى أن تسعد بالتأصيل الفقهي رجاء أن توضع موضع التنفيذ في تطوير قانون الأحوال الشخصية وفق ثوابت الشريعة المطهرة.

 



عدد المشاهدات: 12718

طباعة  طباعة من دون صور


رزنامة نشاطات المجلس
للأعلى