مجلس الشعب السوري
اسم المستخدم
كلمة المرور
نسيت كلمة المرور
تسجيل جديد
 الرئيسية 

حيرةُ الوجودِ ... د. نبيل طعمة

الأحد, 13 كانون الأول, 2020


اختصَّ بها الإنسان الذي لم يتبدّل منذ نبت من الأرض وحتى اللحظة التي هو عليها، على الرغم مما نسجه نفسه عن عمليات تطور أو هبوط أو بحث عن حيوات أخرى، إنه هو المتنقل بين الماضي والحاضر، بين الحفظ والفهم والعلم، بين القديم والحديث، بين المادي واللامادي، بين التراث والثقافة.

 المشهد العالمي من يراه غيره نجده يتحدث عن ذاته بين الفينة والأخرى، يكشف زيف التاريخ المنسوج في عقول البشرية أو يؤيده، هذه اللاهثة خلف الأمام تحمل الوراء  وتقتدي به، من دون إدراك أن ذاك الإنسان وأقصد به القديم الجديد قدم الأرض، يتلاعب بعقول الحضور، ويؤكد وجود عالمين مختلفين كلياً، عالم عقلي أنتج هذا الكون بما فيه من جماد وحيوان ونبات وإنسان، وعالم خفي سكن جوهر الكون، وحرّك كامل منتجاته، يكون بشكل خاص أي هذا المسكون قيمة نطلق عليها العديد من المسميات، بما فيها التراث الاجتماعي، هذا التراث لا يقاس بزمان أو مكان أو علوم أو أيديولوجيا، لأن كل مسكون موجود في قيمة الحياة الأولى والأخيرة جسّدها وجود الإنسان، والفرد منه لا يعلم درجة ثقافته، وكذلك إنسانيته بمعزل عن الآخر، وليس هناك وجود نوعي مستقل يدعى الثقافة أو العلم أو المعرفة أو حتى الفكرة، ومن كل ذلك نستطيع القول مجتمعين ومنفردين: إن الثقافة هي أرقى أنواع الحضور الإنساني والاجتماعي، لأنها نتاج الفكر والمادة والتاريخ، ثلاثة حاملة لعلاقة الحياة بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالمسير إلى الأمام.

مؤكد أن المادة تنتج الأفكار، فالعري أنتج اللباس، والحجر جذب الإنسان للبناء، الحديد والذهب أخذا به للتصنيع والإبداع، والتأمل بكل ذلك أدى إلى إنتاج المختلف لا المتشابه وتطوير الأفكار بعد مراقبة الخلل في التوازن بين المنتجات، التي ولدت نظم الحقوق والواجبات والتساوي والتناقضات والتحضّر والتخلف، ومعها ولدت مفاهيم الهوية والانتماء والخصوصية في اللغة والحركة، وتمّ فرز الواقعية عن الخيال والدخول إلى المجال الحيوي الذي يحيط بالإنسان شريطة أن يكون واقعياً، فالخيال أحياناً يكون انعكاساً للواقع الذي غدا يسألنا ليس عن مقدار ما تعلمنا، بل عن القدر الذي فهمته من هذا العلم، أو أنقل وأحفظ بشكل مجرد عن الفهم، وهذا لا يثقف لساناً، ولا يقوّم بياناً، ولا يعمّق فكرةً، ولا يظهر شخصيةً، لأنه غير قادر على الخروج من بيئته المحيطة به وتراثه الموروث، ما يؤدي في الوقت ذاته إلى توهانه بين الأديان والسياسة والجنس، تلك التي يطلق عليها المحرمات، فما إن يتعلق الإنسان بواحدة منها فإما أن ترفعه، أو تدنيه، أو تدعه تائهاً بين الجهل والوهم والمعتقدات والخرافة، أو تخرجه من كل ذلك، لتأخذ به إلى عوالم الإنسانية التي أخذت بالتضاؤل نتاج سيطرة المادة ومخرجاتها على العقل الإنساني، الذي تطور فيه كل شيء إلا الإنسانية صاحبة مبدأي الرحمة والعدالة، حيث حلَّ محلها الصراع والحروب والأحقاد والتنافس اللا شريف، فالشمال على الجنوب، والغرب ضد الشرق، والتفكك الأسروي خير مشهد، كل هذا أدى إلى ضعف الإنسانية، وبالتالي ضعف معه مفهوم اللامادي، وبتنا نسمع بين الفينة والأخرى ضرورة الحفاظ عليه، والسبب دخوله مرحلة الإنعاش.

 المنطق الثقافي يسمح للإنسان بأن يقول: إن لا معقول في الوجود، لأن كل شيء فيه موجود، فمنه ما تمّ تعريفه، ومنه مازال يبحث عن تعريف في التراث، انتهى التعريف لأن التسليم به جين تتوارثه الأمم والشعوب، وهذا ما أنشأ في الإنسان عملية التضاد الداخلي، كل الخير والشر، والإيجابي والسلبي، والقوة والضعف، بين فقه الوجود وفقه النصوص، كل هذا يشير إلى أن لدى الإنسان عيباً معرفياً رغم امتلاكه كثيراً من مفاتيح العلوم المادية والإلهية، وابتعاده عن واقعه الذي يتحرك ضمنه وجوده وحياته التي ترينا تعلقه بمشكلاته الجزئية، التي طوّرت أناه وخوفه، وها هو الآن يعتبرها أهم من مشكلات الحياة الكلية، لأنها تقيّده بالغرائز والعادات والتقاليد الموروثة والاصطناعية، ما يمنعه من تجاوز ذاته إلى كلية الحياة القائلة أبداً: إن الإنسان بمفرده قليل، وإن التعاون وحده كفيل بتحقيق التقدم الإنساني أولاً، والعلمي التقني بعد ذلك، وهذا يقودنا اليوم لسؤال عن معايير وجودنا الحي، وعن الخطر الكبير الذي يتهدد هذا الوجود الكامل في التعلق بالجزئي وإهمال الكلي.

من يهدم الإنسان إنسان، من يقتل الإنسان إنسان، ولا عدو للإنسان سوى الإنسان، ومن يصلح الإنسان إنسان، ومن يلده ويرعاه إنسان، أما الموت فهو حالة لها العديد من مبرراتها الروحية والمادية، ألا يدعونا كل ذلك للتحرك من أجل قضية الإنسان، والإنسان في جوهره مستعدٌّ للبحث في القضايا الكبرى، ويربح دائماً إذا راهن على إخلاصه لها، واستعداده للتضحية إذا تجاوز قضية الذات وفرديتها وذهابه لإنسانيته، فإذا لم يقدر كل هذا التطور العلمي على التعريف بثروات العالم الثقافية وضمان سبل رعايتها وتطويرها، وفي الوقت ذاته تقديم التراث اللامادي بعد صيانته بشكل لائق للأجيال، فإننا نصرّ على الضرر بهذا الواقع الذي يطور الحيرة والتردد بدلاً من الاطمئنان في الحاضر وعلى المستقبل، فالتواصل يعتبر أهم مكمل للبيئة التي حرّكها الإنسان بوجوده بعد أن تصورها بالاستناد إلى ما اقتضاه من قيم روحية مع فهمه للضرورات المادية، ومنها كان الكيان الإنساني الذي يستمر في مسيره الذي يرسم منه تاريخه وأعماله ومدوناته التي ألفت له إطار حياته اليومية، وشكلت معها انعكاساً للشروط الاجتماعية والأخلاقية في مراحل تطوره، فيا أيها الإنسان الذي حيّرك وجودك أنت قوة الفعل الممتلك للملهاة والمأساة وهزة الفاجعة، أنت تمتلك الاتصال المباشر بكل ما في هذا الكون، وأنت الوهم الذي من خلاله خلقت الإيمان، وأنت الصح والخطأ في الذي أطلقته على نفسك بأنك إنسان، فإما أن تكون مشاركاً في هذه الحياة، وإما لا تكون، إنك أنت الذي قلت إنك وجدت للعمل، من أجل من تعمل؟ وأن العمل يعني الإيمان، أنت القوة التي تترفع على الانقسام وعلى حدود الطبيعة والمجتمع والثقافة، أنت الوصل والتواصل، أنت الرابطة بينك وبين بني جنسك أولاً، ومن ثم مع كامل المخلوقات والموجودات، فلماذا الحيرة؟ هل الانتشار الهائل للإنسان الذي تكاثر إلى حدٍّ مرعبٍ يدعو للاستسلام وللانتصار الكمي الذي أنجب ثقافة متدنّية، وأدى لانتصار ثقافة الاستهلاك على ثقافة الإسهام في الإبداع، وسعى لإضعاف حياة التأمل والتفكر والمعرفة الخلاقة، وهذا بحدّ ذاته ما أدى إلى تدهور الإنسانية، وخلق الحيرة لدى الفاعلين فيها والعاملين على نشرها، وخلق الحيرة مجدداً، فغدا أكثر من ضرورة لإيجاد السبل التي تكفل استعادتها وتعزيز الثقة بأنها المشترك الرئيس بين جميع الأناسي، حيث يجب أن يلهمنا كل ذلك أن بناءها يوقف التدهور، ويسرع من فهم الحياة.

ألا تتابعون تدهور الفكر الإنساني؟ وبدلاً من السعي لرفع الأعمال التعسفية والمذلة لوجود الإنسانية عبر المزايدات في الإثارة المادية والفضائح السياسية والدينية والجنسية، هذه التي لم تعد تبحث عن المصير الفعلي لجنس الإنسان، هذا الإنسان الذي أعاد بفكره بعد خلقه ترتيب الكون وتقديم موجده الذي عاد ليوجده، ألا يستحق التمجيد وإحياء لغة التواصل الإنساني الذي يلغي حيرته، ويحقق من خلاله التوازن بين العلم والدين، بين علوم الطبيعة وعلوم الإنسان، بين المعرفة والثقافة؟ أليس الإنسان مبدأ كل اختيارات تاريخه وغاية كل وجوده وموضوع عملها، وهو الذي وكما بدأت لا يوجد إلا مجتمعاً في تصوّرٍ كليٍّ يعطيه المعنى؟.

د. نبيل طعمة



عدد المشاهدات: 6548

طباعة  طباعة من دون صور


رزنامة نشاطات المجلس
للأعلى