مجلس الشعب السوري
اسم المستخدم
كلمة المرور
نسيت كلمة المرور
تسجيل جديد
 الرئيسية 

الولادة والميلاد- د. نبيل طعمة

الأربعاء, 26 كانون الأول, 2018


الوطن السورية

العقل والتراث مسؤولية من؟ تنمية التراث وترقيته وتشذيبه وحفظه ضمن الذاكرات وتناقله بين الأجيال، وأثره في التطور الحضاري والفرق بين التراث القومي والتراث البشري تقع على عاتق من؟

من يدرك قيمة التراث؟ ومن المشغوفون به والمولعون بآثاره ومدى انعكاسه على الحاضر؟ ما معنى سعي الإنسان الدائب عما يلائمه ويرضي أهواءه، وعن الأمكنة التي يجد فيها متنفسه وأمنه، معابده، كنسه، كنائسه، مساجده، دور بحثه، وتخصصه بشيء ما، وإلى كل ما يتصل بذاته؟

حضور الوقت عند الأشياء التي يكمل بها أو يحققها من أجل استمراره  أكثر من مهم، فالإنسان وحده يحب الحياة، ويتعلق بها، ويود لو يعمر آلاف السنين، أو يخلد ولا يفارقها، لأن الحياة تغني العقل، وترضي الهوى، وتعلي الشأن أو تذله، إلا أن الإنسان وحتى اللحظة لم يدرك بداية الحياة، ولا يعرف شيئاً عن نهايتها، رغم ما وصل إليه العلم، وأسّسَ له المقدس الروحي المولود من رحم الحياة وحاجتها لقوى ميلاده، الذي سكن عقول وقلوب ذلك التنوع البشري بقوى الحب والإيمان، حيث أعلن في مثل هذه الأيام عن ولادة ملك جديد هللويا ليعم السلام في الأرض ولأعلى نقطة، فكان بميلاده مجيداً معتبراً العالم إياه الوتد الذي إليه يتداعى القديم، ويتناغم معه الجديد.

كيف بنا نواجه الحياة؟ أجزم أنها تكون بقدر من الحب واستيعاب لمفاهيمها، نصنع المعجزة أو تحضر في غفلة منا، أو تلد من القدر، فتذهل المشهد وتغنيه، هل كان للإنسان أن يحيا بلا حبّ، والحب متعلق بالولادة والميلاد اللذين يشكلان دافعة للنمو ضمن الحياة؟ وهل تكفي الصلوات والأدعية للدفاع عن الحياة، أم إنها لغة العمل والبناء والاقتداء بما أسسه الخالدون من إبداع ظواهر الكون وغرائبه وعجائبه؟ فتنت الإنسان وراعته في آن، فخرَّ لها ساجداً، لأن منها ما أسعده، ومنها ما أشقاه، إلا أنه عبدها بكليتها، وأكثر من ذلك عبد ما وراءها، بعد أن تخيلها ورمّزها، وأيضاً عبد الشر ومصادره خوفاً واتقاءً، وعبد أعضاءه التناسلية لأسباب وجوده منها، وقدّم القرابين لها بعد أن اعتبرها آلهته، وأفرد لها التسابيح والتراتيل والابتهالات، وانتقل هذا التراث من جيل إلى جيل، ومن قوم إلى قوم، ومن أمة إلى أمة، ومع هذه الانتقالات حذف هنا وأضاف هناك، مال الإنسان بفطرته إلى حبّ التملك والظهور والسيطرة، وأيضاً إلى التكلف والتملق، فحوادث الكون وأنماط السلوك ونظم العيش أسست جميعها لتكون نواة للتاريخ، بينما تعليل عجائبه وغرائبه وحدوث ظواهره أسست لتكون نواة للعلم، وأستطيع أن أقدر أن أحاديث الأفراد هي ذاتها أحاديث الأمم القديمة والدول الحديثة، فجميعهم يتحدث بعضهم إلى بعضهم الآخر، وينقلون عن بعضهم ويستجيبون أو ينفرون من بعضهم، ما يظهر رقي بعضهم واستفادتهم من التراث وجهل بعضهم لمقتضيات وجوده.

 هل نفكر فيما كنا عليه كأفراد وشعب ودولة وأمة، وفيما نحن فيه الآن، وإلى ماذا نهدف فيما نريد أن نصير إليه؟ فهل نحتاج في حاضرنا إلى معجزات؟ فالإعجاز قد يكون معجزة في وقت، ويكون بعينه غير معجزة في وقت آخر، أو لا يعني شيئاً لقوم آخرين.

نحن أبناء الحاضر هل نؤمن بوحدة العواطف والمثل العليا، ونضم إلى إيماننا وحدة الميول والاتجاهات؟ بما أننا نحيا متابعين كعمر واحد، وننمو ضمن طور واحد في زمن حياة واحدة، لم يتغير ولم يتبدل كاسم وجغرافية بعيداً عما نشترك به كبشر موجودين في جميع الأوطان على وجه كوكبنا الحي في العواطف العامة والمثل ودرجات الذكاء واستثمار النباهة وعدم استخدامها، أيعود إخفاء الذات إلى عجز في الفكر أم أخطاء في التعبير، يتخلى عنها الوجدان الذي يتمثل فيه الموروث الباحث عن الحب، أي عن الحياة التي تتحرق شوقاً لفهمها من الإنسان؟

هل هناك من سبيل لإدراك اللامدرك؟ فالذي يحزّ في قلب كل كائن بشري واعٍ هو هذا التهافت المؤخر على إدراك اللامدرك، حيث المدرك بين أيدينا وتحت بصرنا، ولا نبحث فيه وعنه.

تأملوا وتفكروا في رسالة بولس الرسول المنتشر من دمشق إلى روما إلى تيطس 5:3، «لاَ بِأَعْمَال فِي بِرّ عَمِلنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ خَلَّصَنَا بِغُسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي وَتَجْدِيدِ الرُّوحِ الْقُدُسِ»، وفي سورة عمران ضمن الكتاب المكنون: «وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ».

 لقد بشرت الملائكة مريم بكلمة من الله «اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» فتضمنت البشارة صفته ومكانته بين البشر، ومن الله الولادة تظهر العقل، والميلاد يشكل التراث، لأن الأعياد ذاكرة، المفترض أن تهذّب مع كل حلول لها الذات وتقوِّمها، لا أن تحمل تكراراً وتشابهاً واحتفالات مبهرجة، ولأن الولادة أسست لظهور الميلاد الذي اعتبره العقل البشري من دون استثناء نقطة تحول، وحمله في فكره، واستند إليه الجميع، واستعاد به كل أنواع الولادات من آدم وحواء إلى السيد المسيح صاحب الرابطة بين ولادة موسى وولادة محمد عليهما السلام، من يقدر على نفي ولادته يستطع نفي الميلاد، إنها ميثيولوجيا الذات، أطلق عليها ما شئت، لكنك حكماً ستتوقف عند مخرجات تدعوك للإيمان، ربما نختلف في فهم الأديان، لكننا نتوقف أمام صعوبة نفي الإيمان.

الإيمان الذي يعني أننا موجودون متشابهون في الجوهر والمظهر، الأطوال والألوان وحدها تعني رسائل تظهر من الأماكن، فالذي يوحد جميع الأناسيّ هو الإيمان، الخوف والقوة ضدان، النشوة النسبية والخلل الخلقي نسبيّ، الحقيقة الوحيدة التي وصل إليها الإنسان هي الموت، وكل ما دونه أشباه حقائق، أسئلة بسيطة يتناولها العقل الإنساني الباحث عن فلسفة الولادة والميلاد وما ظهر منها، فتوقف العقل عند خلق آدم دعا لتوقفه أيضاً عند ولادة السيد المسيح واعتبار ميلاده نقطة تحول مفصلي، انتبه إليها العالم، وتعامل معها كحقيقة.

كيف بنا لا نرى أو نرى من دون بحث، بأن هذه الأرض المقدسة، وأقصد مؤكداً سورية مهد الحضارات مهد الديانات أن من دونها لما كان في جوهر الإنسانية إيمان ولا أديان، ولكانت الحال متشرذمة؟ فدمشق سورية ضبطت العالم بإرسالها لتعاليم المسيح عبر بولس الرسول، وأيضاً فعلت كذلك مع نشرها الإسلام من الدولة الأموية التي حملت روح الإسلام وعلومه، فما هذا السر الذي تتمتع به؟ والذي بسببه يحاول العالم انتهاكها وتدمير إرثها وموروثها وولادتها وميلادها؟ لكن هذا السر الذي يمتلك الكثير من الأسرار عصي كما هي عصية على المغرضين والحاقدين، فهي مدينة للمحبة والإيمان وعاصمة لوطن السلام، سورية التي لم تكن يوماً عاصمة منغلقة على نفسها؛ بل كانت منفتحة، وعندما حاولوا النيل منها أو إغلاقها اضطرب العالم بأسره، وها هو المشهد أمامكم.

الولادة والميلاد موضوع احتفال عالمي، أيامه عطلة رسمية في جميع دول العالم، تتوقف فيها الدوائر الحكومية، يتبادل الناس التهنئة، ويغدو الفرح عامّاً، تُطفأ الأنوار لحظة وقوع منتصف ليله، يتبادل الأهل والأصدقاء القبلات والرسائل المعبرة عن آمال جديدة خيّرة، تتحقق مع بدء العام الجديد، فها هي سورية تأنس بأبنائها وأعيادهم، وتضيء شجرة ميلادها وآمالها الجادة، تريد أن يأخذ شعبها لغة التجانس والانسجام، لأن اختلاط تقاليده غدا عامَّاً، لا يقدر أحد على فرزها، سورية تتأهب لولادة جديدة وميلاد مجيد، يعلن فيه السوريون انتصارهم على الماضي، والذهاب إلى صناعة الجديد، كل عام وأنتم بألف خير.

د. نبيل طعمة



عدد المشاهدات: 5021

طباعة  طباعة من دون صور


رزنامة نشاطات المجلس
للأعلى