www.parliament.gov.sy
الأحد, 20 كانون الأول, 2020


الأدبُ فنٌّ يدخل الذاكرة … الكتّاب يلحقون مايجري على ألسنة العامة بغير تمحيص!

مطلوب من ذاته المسؤولة عن مفرداته عند الآخر الباحث عن التعابير المثيرة للشهوة الفكرية وتحريضها، لتدخل من بابي الاتهام والإدانة إلى رحابة التأييد والإكبار الذي يولد النباهة، وعندما أخطّ عنواني الذي أؤكد فيه أن للأدب كما لكل شذوذ أو انحراف أو عدوان على النفس والحرز أقضيته، لأن فعالية الإنسان لا تنتصر على ذات أحوالها، بل تتعداها إلى أحوال الغير، فتفعل فيها فعلها، وتؤلب العقول، وتقود الأفكار الاجتماعية والروحية والسياسية إلى المهوى الذي يسعى إليه، والحقيقة الدامغة المتوارثة فكرية وعبر كامل العصور، والحقب تقول إن كل فكرة في حد ذاتها حركة، فباتت الكثرة من أفراد المجتمعات تخشى كثيراً من الأفكار والمشاعر التي يطلقها الأدباء والشعراء والفنانون بالطرق المباشرة أو عن طريق الكتب والصحف والمسارح، أو عن طريق التواصل الاجتماعي، هذه جميعها التي تتجه إلى أدمغة الناس وأفئدتهم، حتى لكأنها رصاص دمدم يفتك في كثير من العقول، يحرف مساراتها الحيوية، يعيد سبكها ويقود حبك السائرين عليها، فللأدب لهيب روح الخمر بالمقارنة مع الحديد المتقد الذي يطوعه الإنسان كما يريد، إلا أن الإضاءة -اللمعان- من الأدب والفنون تطوّع الإنسان.

والأدب الراقي لا يقصد ولم يقصد به صاحبه تخريب الناموس الأخلاقي الفاضل، إنما غايته إثارة نباهة الجذر أكثر مما تفعله الخطب والمواعظ، فهو يعلن الحرب على مفاسد الإنسان وحقاراته، ويصب اللعنات على كل جبن أو خجل أو خيانة، وفي الوقت ذاته يخفض الآلهة إلى مراتب الناس، فيجعل لهم الغرائز الدنيا ما للناس، ثم يرفع الناس إلى مراتب الآلهة، فيجعل لهم من الفضائل ما ليس ينبغي إلا للآلهة والحياة عند الأدباء والفنانين والشعراء دائبة نشيطة مفعمة بالغرائز المتضاربة، يستنبطونها من محيطهم المرئي المعترف به والمتكون من البشر وعلاقتهم بموجودات الحياة، حتى إن قدم الأساطير لابد أن يستند إلى جذورها مثيراً بغرابتها اشتياق قارئيه ومستمعيه ليجدد فيهم غايات الحياة من خلال مفردات كالنقوش الأخاذة أو كشروق الشمس وغروبها وتكاثف الضباب والثلوج والمطر، أو كالغبار المثار فوق المعمعة.

آيات من الوصف الدقيقة بملكات فنية قوية تتجلى من الأدب والفنون، وتربك الناقد أو الجاحد، وفي النتيجة نرى الأدب يغازل الذوق العام والخاص للقراء والسامعين والناظرين، رغم أن ذوق قراء أمتنا ذوق كسول لا يسعى إليه سواد مجتمعنا بحكم انهماكهم بشؤون الحياة وانشغالهم بمآل أحوالهم، بينما يستمر الأدب بنزوعه إلى المطلق وشغفه به ورفضه للحياة العادية المألوفة بشتى تنوعاتها وألوانها، رامياً من وراء ذلك كل ما هو متبادل وساعياً للخلاص من كل متبدل أو متشابه، وصحيح أن تسري في العصر الواحد كثير من المصطلحات والصيغ حتى تتكرر بنصها في كلام الكثير من الكتاب والشعراء، ولعلنا نلمس ذلك لمساً فيما تنشره الصحف كل يوم، وما يردده المؤلفون بين حين وآخر في كل كتاب، لكن الاختلاف ضرورة والألوان صحيح أنها تشكل قوس قزح، إلا أن أساسها واحد تبدأ منه وتنتهي إليه.

والحق أن سعي الأدباء دائم لتحرير الإنسان من الوهم والخرافة والزيف، وهم مصممون دائماً على اقتحام وإقحام أنفسهم في صراعات متناقضة، ويؤثرون خوض سجالات نرى كثيرها يحمل الإثارة في الدين والسياسة والجنس والفلسفة والدراما والنحت والتصوير والرسم والشعر، وحتى على المسرح، فالأديب والشاعر وغيرهما ليسوا بالحجة في نقد أنفسهم، إنما هم حجة في نقد أو إبداع فيما يجري، ولو أنهم لم يكونوا ولا يستحقون ألقابهم كأدباء لكان أكثر النابهين اليوم منهم من الخاملين المنسيين، وضرورة وجودهم يعني استرسال أدبهم واستثماره في كثير من الأغراض المتعددة الملامح، وكلما ازدادت دسامة موادهم ومؤلفاتهم وأفكارهم جذبت الخاصة ومنها إلى العامة وهم يمنعون بفنونهم المتنوعة لتعزيز الآداب عند الإنسان ومنع سقوط الكبار في الأفخاخ، بل أكثر من ذلك جذب الساكنين في القاع إلى الأعلى، وبه يغدو الذهن قابلاً للإعداد، ومن ثم إبراؤه من عوائق البحث الصادق والتأمل الثاقب والبصر الرشيد، كما أنه يخلصه من تلك الآفات التي تسمى الأوثان، وأقصد بها العقائد والموروثات التي تأخذ بالإنسان إلى الانحراف، وتميل به إلى السخف والوضاعة الاجتماعية.
الأدب فن يدخل الذاكرة، وإبداعه يتداوله الناس أكثر من تداولهم للمقدس، ورغم أن ضروباً كبرى من التقدم تحققت وعلى الصعد كافة تكنيكياً مع تسارع الوسائط الناقلة للإعمار والإبداع التي وفرت سرعات فائقة لتبادل الاطلاع على كل جديد من كل شيء، ومنها الفنون والأدب، إلا أن البشرية لم تتخلَّ حتى اللحظة عن تداول أفكار عظماء الأدب والفنون من العصور الوسطى وما قبلها من ملحمة جلجامش إلى هوميروس إلى الإلياذة إلى فرجين وصولاً إلى بودلير وموليير وبتهوفن وباخ وتشايكوفسكي وقبلهم ميكيافيلي ومايكل أنجلو وصولاً لدافينشي، وبعده غوته ونيتشه وفورباخ وهيغل وماركس وأنجلز ودويتسوفسكي وغوركي وهوغو.

أين أدباؤنا اليوم من الأفكار الخلاقة؟ وهل قدروا على إحداث بصمة أو صدمة محلية عالمية تتداولها البشرية؟ أم إن سوادهم مازال في طور التكوين، يحيا نظريات المؤامرة؟ فلا يسمح بمرور الخلاق والمبدع، لأن الجميع متفق على البقاء في الوسط من دون السعي للارتقاء إلى درجة المقنع، ومن ثم الجيد جماهيرياً.

من يقيّم الأدب في مجتمعاتنا ومن يقوّمه؟ من يلتقط الطفرات الإبداعية، ومن يأخذ بيدها ويوجهها؟ في الأدب تحزبات وتجمعات خاصة أو عامة أو محسوبيات، وطالما أن السواد وطني فكيف نحدد الأفضل، وما المعايير لتراتبية اختيار النخب، ومن يحددها؟ أليس عجيباً أن تكشف الإبرة المغناطيسية سبيل الملاح في البحار، ولا تكتشف الإبرة الفكرية السمين من الغث أو الرخيص؟

إنها مشكلة كبرى أن نكون شكوكين ناقدين أو معترضين أو ناقلين فقط، فالأدب يشكو افتقاراً إلى أقلام قوية تسبر أغوار الوطن والأمة، وتشق من خلالها سبلها رغم وعورة المسالك، وليكن الإقدام في معالجة مشاكل الحب والجنس والأديان والعواطف والطموح، ولا ضير من الخوض في بحار السياسة والحرية.

ألا تلمسون تقصير جمهرة الكتاب والمفكرين في هذه المضامير؟ حيث تحول سوادهم إلى أوثان السوق، لنجد أفكارهم تلتحق بالكلمات التي جرت على ألسنة العامة وتداولها بغير تمحيص ولا اقتدار على الفهم العميق، ففي السوق يجتمع الناس، يتبادلون الأفكار بالألفاظ التي لم توضع للدرس، ولا للعناية بالحقيقة، وإنما وضعت للمقايضة والمساومة والالتقاء على سفاسف الأمور، لنجد أن لا مناص في لغتهم من التشويه والاختزال.

الأدب تطابق إنساني إبداعي، بل أكثر من ذلك هو درجة إبداعية يمثل في حال اتساقه مع ذاته درجة إنسانية، وهدفه الرئيس الانتقال إلى الأمام أولاً، وثانياً الارتقاء، وهو لا يقول إن الحقيقة صحيحة، إنما يؤمن بالصح، لأنه يعبر أكثر عن الإبداع المسؤول عن الارتقاء من الفكرة الفردية إلى التكوين الاجتماعي، ومن ثم إلى العالمية، فهو يدعو إلى دمج الأنسنة بالتقنية القادمة من العلم، لذلك كان الأدب معياراً مغايراً لحركة الإنسان المادية، لأنه عالم الحياة الذي يوقع في روعنا بسمة التخيّل، ويأخذنا لتتراءى لنا وكأنها نسج من بنات الخيال والأفكار، وفي الوقت ذاته صورة عن الواقع، والأدب ليس فلسفة، إنما ينزع إليها كي يبتعد عن التاريخ، لأن التاريخ يعالج ما كان، فهو محدود في الواقع، بينما الأدب محدود بالإبداع، من خلال تحويل التخيّل إلى واقع، وما يجوز له أن يقع، ألا يكمن في كل ذلك أدب ليكون الأدب فناً؟