www.parliament.gov.sy
الأحد, 14 حزيران, 2020


أسرار من التجربة... د. نبيل طعمة

نحيا الحياة عيشاً، وسنعيش مجدداً، لأن الحياة مستمرة، وعندما نفهمها يغدو لها معنى، وللتعب والاجتهاد قيمة، وللعيون دموع فرحة، ولاحتراق الأعصاب لذة استثنائية، وللفلسفة مستسيغوها بعد فك عقدها وإظهار غموضها، وللإيمان نكهته، وللطقوس الدينية متعتها، وللحب فنونه، وبذلك لا يكون المرء عادياً، لأن الإنسان حينها يدرك لغة الحياة الجديدة، وإذا داهمتك الغرابة تجدها عذبة وممتعة، لأنها تنهي خوفك من أي قادم.

 قد يقول قائل: إنني مسرفٌ في ابتهاجي، وهذا ما أريد أن يتابعه أي إنسان، ذكراً كان أم أنثى، بعد أن يعلم أنه لم يكن له إرادة في القدوم إلى هذه الحياة، وأيضاً في ذهابه عنها، وعندما تحل الذكريات محل الأحلام في عقل أي إنسان تكون الشيخوخة قد دبت، هذه التي تأخذ به إلى النهاية، أو تقربه منها.

 قد تتنازع العواطف أحياناً في شخص وتثور مزبدة، حانقة على بعضها بعضاً، فإذا تعذر عليه التوفيق بينها فلا بدّ من وقوعه في حالات الاضطراب التي تفقده توازناته العقلية والقلبية، وإذا كبتها أشعلت جوهره، وإذا أظهرها نسجت عليه صوراً جديدة، ولو أننا وجهنا أشعة الفكر الثاقب إلى شاشة العقل الواعي، وتفحصنا ما يحدث به بين الحين والآخر لرأينا أن مجرى العقل الطبيعي يشبه التغيير الدائم للحياة، التي يعتقد الكثرة أنها متشابهة عبر مسيرها الأبدي.

 سر التجربة يظهر أن لا عدالة بين البشر، فمهما قويت بصيرتهم نجدها تأخذ بريئها بوزر غيره، وتفلت مجرماً من إسار العقاب، يضطرني التهذيب الذي يعتبر في المفهوم الميثولوجي أي الآداب العامة لضرورة الخروج عن السياقات المتبعة والسير في اتجاه الحدس الذاتي، لأن التأمل وحده لا يكفي، والتفكير من دون تأمل لا يوصل إلى إيجاد الحل، إنما معاً يجعلان الباحث يدرك ما يتجه إليه بشكل واقعي وعقلاني، فالحياة لا تنبض إلا عند توافر الجمال الهادئ المولد لأرقى المشاعر وأدق الأحاسيس وقوة من البصيرة، التي أداتها البصر، وعالمنا اليوم ممتلئ بالآمال والآلام، وتاريخنا شحيح في صدقه، والأمم منقسمة شاردة موزعة بين غزاة جبارين وزعماء أنانيين وقادة مستأجرين وتجار مساومين ورجال دين مخادعين.

 شعوب غافلة همها أن تملأ بطونها بالرخيص، تنتظر الانتقال إلى الحضيض، تواطؤ رديء بين السياسة والمال عمره مديد، وحروب صادمة وتنازعات ضمن الأوطان على ماذا؟ على الرخيص من العيش والجاه والكرسي، لا على الجمال، وبناء أمجاده صراعات على حصره وتقييده في أيادي المتنفذين وسطوتهم.

 سر التجربة يكمن في النهوض بالحياة، لأنها الهم والأهم، وهذا لا يحدث إلا بإزاحة كوابيس الغفلة والتوقف عن الانحدار والاتجاه إلى المحاسبة الذاتية أولاً والعامة ثانياً، فمهما اختلفت الآراء يجب أن يسودها الاحترام مع فرزها عن عملية الحساب، لأن الخطأ رقم، والأرقام والإحصائيات فوق الآراء، وضرورة البحث في الأزمة الحاضرة لازمة لا غنى عنها في الحاضر، والنبش في الماضي له أهميته، فلا يمكن أن يبقى الماضي مدفوناً مهما ألقي عليه من ركام.

إن كنت خائفاً من فعل شيء ما فافعله لكي تكسر حاجز الخوف إلى ما لا نهاية، والندرة من الشعوب مازالت تبحث في أسرار الكون وتتابعاته، تستكشفه لتضيف كل يوم جديداً، وهمها الرئيس العلم والتطور والوصول إلى ما يفيد البشرية، والكثرة ملهوة بالنوم والصحو والعمل الوظيفي والجنس والإنجاب والتصارع والاقتتال على رخيص العيش، وأن الله يرزق بغير حساب، وحينما نتفكر ونعمل العقل ونفسح له أبواب المعرفة نجده يترفع عن كل ذلك، ليبقى لدى الكثرة الخوف في المرتبة الأولى، ويكمن في المجهول الممتلئ بالمفاجآت ثم الدهشة لحظة حصول الانكسار وعدم تحقيق الأحلام.

 ألا تتوافقون معي بأن الموت يشكل بوابة عبور، ولا يمكن له أن يبقى في الأبدية إلى ما لا نهاية؟ ومادام لكل شيء بداية ونهاية فلا بدّ من وجود نهاية للموت، ونهايته تكون بالحياة من جديد، وطموح أي إنسان بلا شك يؤدي إلى رغبته في الحياة التي تعني إبقاءه فيها بغاية استمرار البناء وتحقيق رصيد يزيح العقبات نحو الغد الذي يكمن فيه الهدف، وكذلك التخلص من الأهداف الأنانية يوجه إلى السبل التي تأخذ بالإنسان للنجاح في أعماله، فكل عمل لا يفيد ولا يحمل الأبعاد الأخلاقية والإنسانية في نتيجته فشل محقق، وفشل أي عمل يكون نتاج ضعف العلاقة بين الإنسان والعمل، فعلى الإنسان أن يحب عمله كما يحب حبه، وإذا كان الحب كالموت لا يعترف بالطبقات أو بالثروة أو بالجاه فهو متشابه مع الأعمال، إن أحبها فلن يتوقف عند سهولتها أو صعوبتها، وهدفه الرئيس من علاقته بها نجاحه والوصول إلى أهدافه، لذلك نجد أن الحب بالنسبة للرجل شيء يختلف تمام الاختلاف عن وجوده، أما بالنسبة للمرأة فهو وجودها وكيانها، فالحب بداية المعرفة، كما أن النار بداية النور، وهو شمس الحياة في تطوره، كلما أشرقت أضفت على الإنسانية معاني الفضيلة والخير والعطاء.

 ها نحن نعترف بأخطائنا السهلة والهيّنة لنوقع في الأذهان أن ليس لنا أخطاء كبيرة مزعجة، وربما تكون خطيرة، متى يتم الاعتراف ولمن؟ من منا لم يقدم على التحرش الجنسي في حياته؟ في عالم الشمال يشكل فضيحة، يتم اصطياد المسؤولين به، لأنه واجهة لكل المخالفات الكبيرة والصغيرة، والتي لا يعرفها سوى المحققين الذين يبحثون في نظم استغلال السلطة الممنوحة للفرد وكيفية تحويل المصالح الشخصية لتكون فوق القيم والأخلاق والمبادئ.

هل بحثتم عن المعرفة؟ وإذا امتلكتموها فكيف تصيرون؟ وإذا وردتكم قبل أوانها فكيف تتصرفون؟ هل يكفي على ذلك دليل؟ لأن الشعوب تفهم، وتفهم كثيراً، لكن إفقارها يحولها إلى خائفة ومرتعدة، وضبطها بالأنظمة والقوانين وقبل ذلك بالعمل يؤدي إلى تحريرها من الخوف، ويمنع انفلاتها، فإذا لم تقم الحكومات بتشغيل أفرادها اشتغلت بها، ومن دون ذلك تكون مسؤولة عن الاتجاه إلى التطرف بكل أشكاله البسيط والعنيف أو المسلح.

من منكم عرف الاستمتاع بعمره؟ كتبت ذات مرة أنه لا يوجد في العمر المقدر سوى خمسين، واحدة ممتلئة بالعمل والحركة والبناء والنجاح والفشل والحب والجنس الذي يمثل للبشرية كل شيء باستثناء الندرة، أما الثانية فيجب أن تكون للإصلاح والتمتع بما أنجز مهما كان صغيراً أو كبيراً، لأن احتمال السقوط فيها والنزول منها أكبر بكثير من الخمسين الأولى، ولكن الملاحظ أن شعوبنا لم تصل إلى هذه الأفكار، والسبب لهاثها خلف ثقافة العيش، لا ثقافة الحياة، تناحر وتكاذب ونفاق واقتتال على أبسط الأشياء، ادعاء بالإنسانية من أجل تحقيق المآرب والإفساد وصولاً لتعميم الفساد، والحقيقة أنها بشرية شرهة لكل شيء.

من منكم عرف الفرح الطبيعي لا الاصطناعي؟ العالم برمته يبحث اليوم عن الفرح أمام ما يجري فيه، لكنه صامت، واعتبر صمته أصعب جواب على ما يجري معه، فماذا يخبئ؟ 

المشهد العالمي يتحدث عن حضوره، ويسأل: هل يكون الوفاء في حدود ما يحصل عليه الإنسان من امتيازات؟ أم إنها كلما زادت انعدمت الأخلاق، ومعها تتراكم لوائح الاتهامات التي لا يعلم الكثرة متى ستكشف أوراقها للعلن؟

حقيقة وأنا أخطّ هذه الكلمات ارتبكت، والسبب يكمن في كيفية وصفي للأحداث على نحو يتوافق مع ما تتوقون لمعرفته، فالعواصف في بلادنا عاتية، والكوارث متشابهة رغم فواصلها الزمنية، ونتائج الخوف من الموت هنا هو البقاء على قيد الحياة.