سوريا وأرمينيا .. تاريخ عريق من الصداقة.. ومتانة في العلاقات.... د. نورا أريسيان
(بمناسبة عيد استقلال أرمينيا في 21 أيلول 1991)
تحتل منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي مكانة بارزة في السياسة الخارجية لجمهورية أرمينيا، إنما لسوريا اعتبار ومنزلة مختلفة؛ لعدة أسباب أهمها وقوف الشعب السوري الى جانب الأرمن أثناء عمليات التهجير القسرية في الإمبراطورية العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. أما بعد استقلال أرمينيا عام 1991، وانطلاقاً من الروابط التاريخية والاجتماعية بين البلدين، وسعياً الى تطوير العلاقات الثنائية وفق مبادئ وأهداف ميثاق هيئة الأمم المتحدة، كانت سوريا أول دولة عربية تقيم علاقات دبلوماسية مع أرمينيا، لرغبة البلدين في تطوير علاقات الصداقة والتعاون في مجال السياسة والاقتصاد والتجارة والتعليم والثقافة.
فالعلاقات التاريخية العريقة بين سوريا وأرمينيا هيأت المناخ المناسب لإقامة علاقات دبلوماسية على مدى 25 عاماً من التعاون والمصالح الاستراتيجية التي جعلت من العلاقات السورية-الأرمنية قوة كبيرة تؤهلها لتلعب دوراً أساسياً في النطاق الاقليمي والدولي.
وفي العقود الأخيرة ولاسيما مع التطورات السياسية في المنطقة، ارتبطت العلاقات بين سوريا وأرمينيا بعدة عناصر: أولها، أن أرمينيا هي الجارة المباشرة لمنطقة الشرق الأوسط ولاسيما سوريا، بذلك لن تكون بمنأى عن الوضع السائد في المنطقة. ثانياً، أرمينيا هي أيضاً جزء من منطقة الشرق الأوسط، فكما يرى المراقبون أن الزعزعة في المنطقة ستشكل تحدياً للحفاظ على السلام الهش في منطقة القوقاز الجنوبية. وثالثاً، التطورات في الشرق الأوسط لها انعكاساتها في السياسة الدولية، ولذلك أرمينيا لن تكون خارج إطار هذه الأحداث.
وهناك عنصر رابع، وهو الأهم، الوجود التاريخي للأرمن في الشرق الأوسط، ولاسيما في سوريا، ومساهمتهم الفعالة في الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية في سوريا. وهذا ما أكد عليه الرئيس بشار الأسد، في كلمة خلال مأدبة العشاء التي أقيمت على شرفه في يريفان خلال الزيارة الرسمية التي قام بها والسيدة عقيلته إلى جمهورية أرمينيا في حزيران 2009، حيث أكد أن هذه الزيارة ليست سوى خطوة على طريق ترسيخ وتعميق العلاقات بين البلدين، وأنها امتداد لعلاقات تاريخية لا تنحصر فقط في مجال احتضان سورية لمواطنين من أصول أرمنية، بل أن الشعب الأرميني أثبت أنه شعب عريق يتحلى بأسمى القيم الأخلاقية وهذا ما سهل اندماج أبنائه في جميع المجتمعات التي تواجدوا فيها حيث استحقوا شرف المواطنة في سوريا وأصبحوا جزءاً لا يتجزأ من نسيج المجتمع السوري الذي يعتبر مثالاً للتنوع والاندماج الحضاري. ولفت سيادته، أن هذا الاندماج الثقافي من دون ذوبان هو الرد على ما يروج من أفكار وايديولوجيات وممارسات عنصرية روجت لبروز بدايات لصراع الحضارات والثقافات والأديان والأمم، الأمر الذي أدى إلى زعزعة الأمن والسلم العالميين في مناطق كثيرة من العالم، ولاسيما في منطقتي الشرق الأوسط والقوقاز وآسيا.
ويجد البعض في أرمينيا أن الحرب في سوريا منذ عام 2011 كانت تحدياً جدياً بالنسبة لأرمينيا. فيما لمس البعض الآخر الوجهة الاستراتيجية لأرمينيا باتجاه دول الشرق الأوسط، ومنها سوريا. فقد باتت الحرب في سوريا من القضايا المدرجة على جدول أعمال الحكومة الأرمينية، وهي الحاضرة في أولويات وزارة الشتات في أرمينيا.
ولم يغب عن المحللين في أرمينيا أن تركيا وأذربيجان تستغلان أطر المنظمات الإسلامية، وتحاولان خلق عداء بين أرمينيا والعالم الإسلامي والوطن العربي، الأمر الذي استحال بفضل العلاقات الطيبة والمتينة لأرمينيا مع العديد من الدول العربية، ولاسيما مع سوريا. ويركز العديد من الباحثين في شؤون الشرق الأوسط والبلاد العربية في أرمينيا على ضرورة الاستمرار في تطوير العلاقات مع الدول العربية وسوريا.
أرمينيا كانت واضحة في مواقفها تجاه سوريا في مكافحة الإرهاب، وقد تجلت تلك المواقف في اتجاهين: السياسي والإنساني. فعلى الصعيد السياسي، برز موقف أرمينيا في المنابر الدولية، وحتى على المستوى الرئاسي. وقد تحدث رئيس جمهورية أرمينيا سيرج سركيسيان في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول 2014 عن الوضع في سوريا، وأشار الى الأحداث الأليمة التي تعصف بسوريا، لافتاً الى أن المجموعات التكفيرية تستهدف الأقليات الأثنية والدينية، وأوضح أن الإرهابيين قاموا بتفجير كنيسة الشهداء للأرمن في دير الزور، والتي كانت مكرسة لذكرى شهداء الإبادة الأرمنية، حيث كان يتم حفاظ رفات الشهداء، معتبراً ذلك عملاً إجرامياً خارج إطار الايمان، وأن ما يجري في حلب وغيرها من المدن السورية هو جريمة بحق الإنسانية، وينبغي العمل بشكل جماعي من أجل منعه. وفي حوار في المعهد الحكومي للعلاقات الدولية في موسكو في 14 آذار 2017 أوضح الرئيس سركيسيان أن العمليات الإرهابية تشكل تهديداً لأمن المنطقة، مشدداً أن الحرب في سوريا كان لها تأثير هدام على السكان السوريين، ومن بينهم السوريين الأرمن، حيث تم تدمير الكنائس الأرمنية والصروح الثقافية الأرمنية، ما أدى الى لجوء حوالي عشرين ألف أرمني الى أرمينيا.
وعلى مستوى وزارة الخارجية، فقد أكد وزير الخارجية الأرميني إدوارد نالبانديان على ضرورة تعزيز الأمن والسلام في سورية وإدانة الإرهاب الدولي، وذلك في رسالة التهنئة التي بعثها الى نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية والمغتربين وليد المعلم في آذار 2017 بمناسبة الذكرى الـ25 لتأسيس العلاقات الدبلوماسية بين سوريا وأرمينيا، حيث نقل أيضاً تقدير الشعب الأرميني للرعاية الإنسانية الكبيرة التي جسدها الشعب السوري في احتضانه الأرمن الناجين من جريمة الإبادة. فيما أكد الوزير المعلم أن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين تجسد الروابط التاريخية بين الشعبين، كما أنها تعبر عن رغبة مشتركة في تطوير العلاقات السياسية، والإقتصادية، والإجتماعية، والثقافية. كما عبر الوزير المعلم عن تقدير سوريا، حكومة وشعباً، لمواقف أرمينيا إزاء العدوان الإرهابي الذي تتعرض له سوريا، مؤكداً ثقته في جميع الأصدقاء، الذين وقفوا الى جانب سوريا أثناء العدوان، في مساعدتها لإعادة بناء ما دمرته الحرب.
ومن على منبر دولي آخر، اعتبر وزير خارجية أرمينيا إدوارد نالبانديان في كلمة له خلال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الوزاري الدولي الذي عقد في مدريد في 25 أيار 2017 تحت عنوان “ضحايا العنف العرقي والديني في الشرق الأوسط” أن الأزمة في سورية وتداعياتها عمقت الانقسامات في الشرق الأوسط وأماكن أخرى في العالم، موضحا أن بلاده مستمرة في الدعم الإنساني ومد يد العون للناس الذين يحتاجون ذلك في سورية. ووصف ما يجري في سوريا والشرق الأوسط بالجرائم ضد الإنسانية مؤكداً أن الحفاظ على التنوع والعيش المشترك في الشرق الأوسط له دور مهم في إعادة الأمن إلى المنطقة.
أما على الصعيد الإنساني، فقد حاولت أرمينيا الإسهام في تخفيف المعاناة عن الشعب السوري وتعرضه للعقوبات، ودخلت في مرحلة عملية حيث أرسلت المساعدات الإنسانية الى سوريا. وحسب الاتفاق الذي جرى بين وزارتي الدفاع في جمهورية أرمينيا وروسيا الاتحادية، وبأوامر صادرة عن رئيس جمهورية أرمينيا تم إرسال مساعدات إنسانية للسكان السوريين المتضررين في سوريا في منتصف شهر شباط من العام الجاري. وتم تنفيذ ذلك بجهود وتعاون بين وزارتي الدفاع في روسيا وأرمينيا، الى جانب وزارات الزراعة والطوارئ والشتات والتطوير الاقتصادي والخارجية، بالتنسيق مع مكتب الرئاسة في أرمينيا. وفي بداية شهر حزيران، تم إرسال الشحنة الثانية من المساعدات الإنسانية، بلغت حوالي 18 طن من المواد الغذائية والملابس، حيث كانت المساعدات تصل الى مطار حميميم في اللاذقية، وتوزع الى عدة محافظات في سوريا.
ومن اللافت في هذا الصدد الحديث الذي جرى بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأرميني سيرج سركيسيان خلال لقاءهما في منتصف آذار 2017، أثناء تطرقهما الى الوضع في الشرق الأوسط وسوريا. فقد أعرب الرئيس سركيسيان عن شكره للجانب الروسي لدعمه في عملية نقل المساعدات الإنسانية المقدمة من قبل أرمينيا الى الشعب السوري. وبدوره قال الرئيس بوتين "نحن ممتنون للأصدقاء الأرمن، لتعاونهم في إرسال المساعدات الى سوريا، وقد تم نقل المساعدات من أرمينيا الى سوريا عبر القوات الجوية الروسية".
ومن جانب آخر، لقد تجلى موقف أرمينيا من سوريا بالقرار السياسي في إبقاء ممثلية جمهورية أرمينيا في سوريا رغم أوضاع الحرب، فقد تابعت السفارة في دمشق والقنصلية العامة بحلب أعمالهما لتثبت المتانة في العلاقات بين البلدين. ما يؤكد على أن أرمينيا كانت جازمة في رؤيتها بخصوص الحل السياسي في سوريا، ودعمها لسوريا في مكافحة الإرهاب. وهذا يقودنا الى أن نطمح لتفعيل العلاقات بين سوريا وأرمينيا في كافة المجالات، بما فيها اللجنة الحكومية المشتركة والعلاقات البرلمانية في المستقبل القريب، وذلك من أجل تعزيز الصداقة التاريخية ودفع علاقات التعاون بين البلدين الصديقين لترتقي إلى مستوى العلاقات السياسية التاريخية بينهما.
د. نورا أريسيان
عضو مجلس الشعب
أيلول 2017