www.parliament.gov.sy
الأربعاء, 26 حزيران, 2024


الدكتور نبيل طعمة يكتب : الوعي والعبثية

تتنافسان على سيادة العالم، فنجد في الوقت نفسه زمني التهريج والتهييج، حروب ومؤامرات واعتداءات خلقت مساحات لاقتناص كل شيء، فكلما تعمق الإنسان في الابتذال والهبوط والانحطاط ازدادت  جماهيريته، إنه ذلك الزمن الذي يرفع الوضيع وينزل المهم والفاعل الأمين، المهرجون حسموا المعركة لصالحهم، ويبدو أنهم أمسكوا بنواصي الكثير من قدرات ومكونات هذا العالم، مستثمرين ألاعيبهم وفسادهم لقلب المعادلات، فعند غياب الأخلاق والقيم والعادات الحميدة يسود الحقد المتدرج الألوان، منه المبصر الذي يدرك ما يفعل، ومنه الأعمى الذي يصيب دون تمييز، وهناك ما هو أشد سوءاً وأكثر قتامة، بما ينتج عنه من آثار واضحة في تدمير الإنسانية، لم يعد للسياسة ذاك المعنى المحترم، ولا للحرية مضمون، بينما الديمقراطية منفلتة ولاحدود لضبطها، فالقوانين تحكمها الأمزجة، والمفاهيم غدت مستباحة وبيد الأقوى، الحكمة تختبئ بين مفردات الحكماء، تاه حضورها في الخطاب ولم تعد موجودة فوق السطور، الكل يختبئ اليوم خلف جدران التبرير ويبتعد عن إيجاد الحلول، الجميع يتحدث عن انتهاء "المَونَة" التي فقدها الآباء على الأبناء والمجتمعات على أسرها، وانتهاءً بالدول على بعضها، الناس اليوم منشغلة بالمستقبل بقلق، متناسين الحاضر وواقعيته، يغادرونه دون وعي إلى الماضي وهم أحياء فيه، ليست الحياة هي من تفرق بين الناس؛ بل الشر والنفاق والخيانة والأنانية، وبدلاً من الذهاب للتعامل مع التحديات والتركيز على الجوانب الإيجابية في الحياة نجد استدعاءً للغوغاء والمرتزقة والمتطرفين في الأديان، والمتشددين من الأيديولوجيات والقوميين النازيين، والعالم برمته تائه بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، كيف يؤمن المرء، أو يصل، إلى أن يفعل ما باستطاعته إيجاباً للحياة قبل أن ينجلي قدره، سؤال أخوض غماره ضمن ما يسود الفكر الإنساني من عبثية وصلت درجة الوقاحة، كيف بنا نعيد له الكياسة وفهم أسس الجمال والتذوق وفنون تلمس الأشياء، كما يفعل المكفوفون لحظة تلمس مسيرهم كي يصلوا إلى أهدافهم، كي لا يقع في الخطيئة، ما نراه اليوم هو استعادة للماضي والتعمية على الحاضر وتعميم الرهبة من المستقبل، عذراً لقد تحوّل الإنسان إلى مقاتل شرس، أين نحن من التطور؟ وسواد الناس إما وحيد أو غاضب أو جائع أو خائف أو باحث عن اللجوء والهجرة، مؤكد أن كل هؤلاء لا يمكن أن يكون لهم قرارات صائبة، وهذا ما يزيد من التخلف ويدفع بالناس إلى العبثية التي تُظهر للباحث البسيط السعي المفرط لتعميم الهيمنة السياسية والاقتصادية والاجتماعية من البعض على الكل ومن الكل على البعض، وهذا ما أدى إلى انتشار الأحقاد والشعور بالفشل الذي يزيد من انتشار الحسد والشائعات والفتن، فالعبثية تسمح بالثرثرة وتهيّىء للفراغ مساحات؛ وهذه بعينها معاناة تسيطر في زمننا الراهن على سواد العقول البشرية.

إذاً أين الوعي؟ ونحن نحيا، منذ عقد ونيف، من اللا وعي مقابل العبثية التي مارست لعبة الدومينو في الشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا، وهي مستمرة في تدمير قدرات وأسس الوعي، لأن الوعي مربك إذا تطور ودخلت الناس إلى تخصصاته،  وامتلاك أسس منه ليس وسيلة تنمية فقط، ولا شرطاً غير مباشر للاطلاع على الغد من الحاضر، إنما هو بحد ذاته ظاهرة حضارية، بل أكثر من ذلك، إنه الحضارة عينها، على اعتبار أنه خلق مثالي وتناظر جمالي وضرورة روحية للإنسان، لذلك أجده؛ أي العلم، في أصدق تعبيراته وأسماها "وعي" يحدد للإنسان اتجاهاته، وبدونه عبث وعبثية تنجز الحروب والجهل والتخلف والفتن، انظروا وتفكروا في حال واقعنا العالمي الآن.

د. نبيل طعمة