www.parliament.gov.sy
الأربعاء, 15 أيار, 2024


الدكتور نبيل طعمة يكتب : اللغة والهوية

تُنجزان على صحراء التاريخ صناعة الحياة التي تبدأ من الإنسان السوي الذي يحولها إلى لغة ومن ثم إلى عمل بعد أن يشتغل عليها، يبَسّطها ثم يقلّبها، فتغدو بين يديه صحائف يجمعها ضمن كتب وهو مستمر، لأن طبيعته قامت على ذلك، ومازال يبحث وينقب من أجل تحويل رمالها إلى عمل، لأنه أراد أن يحيا ذاته، بل يحق له أن يحيا كل ذاته، مشروع له أن يمارس أبعاد الحياة، وأن ينتقي منها ما يزيد حضوره وعمره، وأن يُعامل بمحبة وشرف ومساواة، وإذا عومل بعكس ذلك فله أن يفعّل لغته، وله الحق، بل كل الحق، بأن يحيا الحياة الرضية، وإذا فُرض عليه السلم والشقاء معاً، فعليه أن يعايشهما إلى أن يخرج من ذلك، أو يستمر مع أحدهما، هذا هو الإنسان الذي نبتت فيه لغته، ومعها ظهرت منها شهواته التي أسعدته وأشقته في آن، وانقسم بينهما واختلف عليهما.

تتجسد الهوية بأنها مجمل السمات التي تميز شعباً عن غيره أو شخصاً عن غيره أو مجموعة عن غيرها، وكل منها يحمل عناصر يختلف بها في هويته، وعناصر الهوية اعتبرها شيئاً متحركاً ديناميكياً يمكن أن يبرز أحدها في مرحلة معينة وبعضها في مراحل تالية، إلا أنها تبقى ضمن الطبع، والطبع قوّام على التطبع، والهوية الشخصية تعرف شخصاً في شكله واسمه وصفاته وجنسيته وعمره وتاريخ ومكان ميلاده، إلا أن هذه الشخصية لا تكتمل إلا بحدوث وحدة المبنى والمعنى، وفي تعريف الهوية أنها مزيج من الخصائص الاجتماعية والثقافية التي يشترك فيها الأفراد، ويمكن من خلالها التمييز فيما بينهم، كما أنها تعرّف بأنها مجموعة الانتماءات التي ينتمي إليها الفرد، أما مفهوم الهوية الوطنية فهي مفتاح الحلول، من باب أنها تمثل المصدر الاتفاقي للدولة، وفي الوقت ذاته تجسد تراكم المعارف التي تقرب الناس من الفهم الصحيح لجوهر الدولة، فلا حرية لشعب يزدري هويته، وإضافة  إلى كل ما تقدم فإن الهوية تصبح حالة رأي عام لأنها تتعالى على العاطفة وتُظهر تشارك الناس في نجاحاتهم وانتكاساتهم، والرأي العام غالباً ما يكون مصيباً، وبذلك تكون الهوية التي تمثل القائد المرشد؛ الذي من خلاله يتم احترام العادات واحترام التقاليد، وتعليم الأجيال احترامها وبناء فكرهم على تقديس الهوية، أكثر من ضرورة، بل هي حاجة وحق، مع تعويدهم التفكير الجمعي كي لا يكونوا عبيداً لغيرهم، وتعويدهم الخضوع للحق، فالهوية تكوين ثقافي ونضج اجتماعي، وأهمية الوعي في الهوية الوطنية والالتزام بها ضرورة وحق وواجب لأنها تمثل الدولة، والدولة أكبر من الشعب وأوفى دلالة من الوطن؛ الذي يمثل الموقع الجغرافي والتاريخ المشترك والاقتصاد العام ونظام العملة الواحد والعلم والواحد والحقوق والواجبات المشتركة، وعلى الرغم من أن الوطن هوية، وقد يحلو للبعض استبداله، إلا أن هوية الدولة أكبر وأشمل لأنه لا يمكن استبدالها، مئات القرون مضت على وجود الشعب الثرّي نجدها تنهل من بعضه، وتضيف إليها، وتحذف منها، ومضت أزمان، وستأتي مثلها، والبحث جار عن توصيفها وبدايتها، فلم يترك فرعاً من فروع المعرفة إلا وبحث وتعمق به، ولم يزل يستكشف آفاق وجوده، هذا هو الإنسان الذي اجتمعت على صحراء عقله كل الأشياء، تزاحمت حتى كادت تمزقه إرباً، إلى أن أخرجته منها، ليراها ويوصفها، ومن ثم يحولها إلى تعابير وأسماء، فكان الكون وكل الأشياء، لأنه ابن الحاجة التي احتاجها، فاصطدم بها بعد أن حول التعبير إلى استمرار؛ أي إلى ولادات فكرية علمية وعملية وجنسية وأوطان ودول وهويات.

هلّا تفكرتم في الكيفية التي اخترع الإنسان فيها لغته؟ هل فكر فيها وبمزاياها؟ وهل ولدت منه؟ وهذا مؤكد طبعاً، لأنه لم يمتلك خيارات غيرها، وكيف بها تحولت إلى هويته التي اصطبغ بها، فكانت كل تطلعاته وأحاسيسه وتعابيره ومقاومته لكل ما يريد من جماد ونبات وحيوان وآخرين من جنسه، وهي التي تصنع حبه وكرهه ونجاحه وفشله، هل يمكن أن يكون إنساناً بلا لغة، بلا هوية؟ لا يمكن لأنه على مستوى متطور من الأجناس الأخرى بفضلها، وكينونته الخاضعة ضمن المستويات الانفعالية العقلية والنفسية والبصرية والسمعية، إذاً اللغة أهم جهاز يحول كل الأشياء المحسوسة، المادية واللا مادية، التي يشعر أو يفكر بها إلى وقائع وحقائق، منها ما يدوّن، ومنها ما يسقط في اللا معنى من اللغة.

الإنسان موسوعة حية، تحمل كل صفات الكائنات الحية المبدعة والبليدة، وفي الوقت ذاته تجده غير متساو في الأبعاد، ولا في الألوان، ولا حتى في استثمار الأفكار، فمنه من يبقى عقله متصحراً، ومنه من يحوله إلى أخضر، ولكن بنسب قليلة، يستثمره بالدقة العلمية والعملية، لكنه في مجموعه يعيش إما عالة على المُنتج منه، وإما عالة على الطبيعة التي تحتضنه، لذلك كانت صحراء التاريخ هي بداية الإنسان، ومساحاتها هي أوراقه التي دوّن عليها مجريات أموره ومسيرته التي تتشابه مع سباق التتابع، ومازالت مستمرة.

هذا هو الإنسان، كثيره يفكر بالنهايات، وهو كائن في البدايات، أو حتى لم يصلها بعد، ويتعلق بأجزائه لدرجة كبيرة لاستناده إلى الخوف، وقلبه تعلم الحب، فهمه وأدرك قيمته، فنجح وأنجح عمله الذي من دون هذه العلاقة يبقى متندراً شاكياً باكياً واقفاً في المنتصف، لا يرى سوى صحراء الماضي وسراب المستقبل.

الإنسان يسعى طوال عمره المعيش لتحقيق ما يأمله ويحلم به، والاستعداد الدائم لشرائه بغية الوصول للانتصار؛ بالحق، بالخير، أو شرائه بكرامة أو من دونها، ومن ثم يدونه على صفحات صحراء تاريخه، كي يلفت النظر إليه.

دققوا معي: لنجرِ مماحكة حول الذي أخطّه وأنتظر أجوبة مقنعة قاسية أو لينة، من صنع التاريخ..؟ هل الآلهة صاغته ضمن اشتراطاتها الفائقة الدقة؟ أم أن الشمس والقمر استمدا لغته من أخلاق النجوم؟ أم أن هذا الإنسان هو الذي نسج البداية، ولم يعرف حتى اللحظة أن يكتب النهاية، فأحالها إلى الشيء أو اللا شيء أو للذي ليس كمثله شيء؟

اللغة كتبت التاريخ، أخذت من طموح الأرباب وحزن الرسل والأنبياء، من دماء شهداء النصر والعشاق والمخلصين للحياة والمنكسرين منها، فأنجزت للكل قراءة تلهب الأفكار وتدغدغها، فكانت معجزة الإنسان هي لغته، تداخلت مع معجزة القدر وعبقريته المظهرة لهذا الإنسان بكل ما فيه، فوضعت بعضاً منه على القمة، وسار كثيره بين السهول والهضاب، وسقط منه من لم يجدها إلى مهاوي البؤس والفقر أو التشرد والتسول.

إنها اللغة، تُنطق وتُكتب، فماذا نهدف من حديثنا عنها، ومن يستحق حملها والتحدث عن منبتها، من يعيد لها ألقها من الناس؟ الساسة، أصحاب الفكر، المثقفون، المعلمون، اللغة ذاتها، والغاية التي نتوخاها من ذلك هي تهذيب الفكر والحركة والإنتاج والإبداع، فما نراه اليوم هو أشياء أليمة تحدث  للغتنا وهويتنا، فما هي احتمالات عواقب هذه الآلام الواقعة عليها؟ آمل أن نتفكر فيما ذهبت إليه، وأن نعمل للوصول إلى إعلاء شأنها، فهي هوية الإنسان.

د. نبيل طعمة